الاستيطان العلوي في الساحل السوري (2من 2)
رواء علي – العربي القديم
في الجزء الأول من هذه الدراسة الهامة، تحدث الباحث رواء علي عن ولادة العقائد النصيرية في جنبلاء الفارسية على يد أبو الجنان الجنبلائي، ثم هجرة تلميذه الحسين بن حمدان الخصيبي إلى بغداد بعد أن مات شيخه، ومنها إلى بلاد الشام بعد أن تم قتل الحلاج في بغداد بتهمة الزندقة سنة 309هـ، حيث رحل إلى حلب، واتصل بسيف الدولة الحمداني، ومات الخصيبي ودفن في حلب. كما أشار الباحث إلى إشراف تلميذ الخضيبي في حلب (محمد بن علي الجلي) على تجمع النصيريين من بعده، ثم تحول الزعامة إلى تلميذه الميمون بن قاسم الطبراني (358-426هـ) الذي افتتح النزاع الدموي بين النصيرية والإسحاقية، وانتقل من حلب إلى اللاذقية، ليبدأ أتباعه من النصيريين بالتحول للسكن في الجبال الساحلية (العربي القديم).
***
الإسحاقية والنصيرية
ظهرت الإسحاقية المنسوبة إلى إسحاق بن محمد النخعي بشكل متزامن مع النصيرية، وكان صاحبها مع صاحب النصيرية محمد بن نصير النميري من الجماعة الغالية نفسها، لكن التنافس الشخصي بين الشخصين، أدى لانقسام ظهر بموجبه فرعان، انتسب كل واحد منها لصاحبه، مع أن الإسحاقية دون النصيرية بدرجة في الغلو، فالنصيرية تؤله علي بن أبي طالب، أما الإسحاقية فتؤله محمداً صلى الله عليه وسلم، وفي فترة ما بعد نشوب النزاع، بين فرق الشيعة عموماً على بابية الإمام الغائب، انقسم الغلاة إلى فرقتين: الإسحاقية والنصيرية، وفي وقت سابق عن النصيرية أوجدت الإسحاقية موطئ قدم لها خارج العراق، فانتشرت في المدائن، وظهرت في المدن الساحلية اللبنانية، وامتدت إلى جبال الساحل السوري. وقد ظهرت الإسحاقية مطلع القرن الخامس الهجري، من خلال زعيمها إسماعيل بن خلاد البعلبكي الذي تنعته المصادر النصيرية بكنية (أبو ذهيبة)، وينعته الطبراني باسم (الرجل المرجل، وطائفته باسم العصابة المقصرة)، وقد عاصر ميمون الطبراني وتنازع معه فكرياً أولاً، في نزاع هو تكرار للنزاع نفسه، بين ابن نصير، وإسحاق بن محمد، ثم تطور النزاع من الاشتباك الفكري إلى الاشتباك بالأيدي، انتهى أخيراً بمقتل ابن خلاد، بعد أن تحول ميمون إلى اللاذقية فاتحاً الطريق لمن هو نصيري لقتل كل من هو إسحاقي!
إن الأحداث السابقة من صراع النصيرية مع الإسحاقية، وبدء إيجاد موطئ قدم لها في الساجل السوري بقيادة ميمون الطبراني، لم تحدث بمعزل عن الظروف المحيطة في المنطقة، والتي استجدت مطلع القرن الخامس الهجري، القرن الذي بدأ فيه زوال النفوذ والتواجد الشيعي في المنطقة، ومن ثم نهاية القرن الشيعي (القرن الرابع).
تغيير هوية المنطقة الساحلية
في عام 296هـ نجح الإسماعيليون في إنشاء دولتهم في شمال إفريقيا، على أنقاض دولة الأغالبة، ثم سيطروا على كل شمال أفريقيا، وفي السنين اللاحقة قاتلوا الإخشيديين في مصر، حتى نجحوا في السيطرة على مصر، وأسسوا القاهرة التي أصبحت عاصمتهم، منذ عام 362هـ زمن المعز لدين الله الفاطمي، وبعدها عملوا على مد نفوذهم إلى بلاد الشام، فدخلوا في نزاع مع القرامطة والحمدانيين، انتهى بسيطرتهم على معظم بلاد الشام، حتى حلب سنة 363هـ، التي سقطت فيها الإمارة الحمدانية التي عاشت الجماعة النصيرية في سلطانها، ولم يلبث أن سيطر بنو مرداس الكلابيون على حلب مؤسسين الدولة المرداسية وقاعدتها حلب، منذ عام 414هـ، ومدوا نفوذهم إلى الساحل اللبناني وشمال سورية، ودخلوا في علاقات متذبذبة مع الفاطميين تراوحت بين الحرب والمهادنة، واستمروا في حكم حلب حتى عام 472هـ، حيث حل مكانهم العقيليون أصحاب الموصل. وفي الزمن الذي حكم المرداسيون فيه حلب حدثت عدة تحولات تاريخية ودينية في المنطقة، ساهمت في تغيير هوية المنطقة الساحلية عموماً:
- كان المرداسيون، مثل الحمدانيين شيعة، ورغم ذلك لم يستسغ ميمون الطبراني الإقامة في حلب تحت حكمهم؛ ربما لعلاقتهم بالإسماعيليين الودية أحياناً، أو ربما – ولا يوجد دليل- أنه كان لهم ميل للإسحاقية القريبة في معتقداتها للإسماعيلية؛ لذا ترك ميمون حلب، وانتقل إلى اللاذقية، وبانتقاله بدأت عملية هجرة النصيريين من مركز انتشار النصيرية في داخل بلاد الشام إلى الجبال الساحلية، حول طرطوس، وسهل الغاب، أما الجبال شمال اللاذقية، فلن يظهر العنصر النصيري فيها إلّا في العصر المملوكي. ولم يحدث هذا الانتقال النصيري دفعة واحدة، بل استغرق زمناً حتى صار واقعاً، والذي يعرف عن ميمون بعد انتقاله إلى اللاذقية، هو صراعه مع زعيم الإسحاقية ابن خلاد الذي قُتل خلال هذا الوقت، واستن أتباعه به، فقاتلوا الإسحاقيين، فقتلوهم وشرّدوهم، وأحرقوا بيوتهم وآثارهم، ومن بقي بعدها من الإسحاقية سيكمل اجتثاثه المكزون السنجاري بعد قرنين من زمن الطبراني. بعد أن انتهى ميمون من الإسحاقية استقر في اللاذقية في منطقة الميناء القديم، وبقي هناك حتى مات 426هـ، ودفن في مسجد الشعراني على أنه رجل دين صوفي، وبقي قبره موجوداً هناك حتى الثمانينيات من القرن العشرين، حيث نقل قبره إلى قرية بسنادا.
- في عام 386هـ توفي الخليفة الفاطمي العزيز، وخلفه ابنه الحاكم بأمر الله، وكما هو معروف، فإن الحاكم ادعى الألوهية، وجاهر بما لا يجب من عقائد الإسماعيلية الباطنية، فأسس بذلك لدين جديد بالنسبة لعوام الناس، مما دفع البيت الحاكم لاغتياله، فظهر تبعاً لادعاءات الحاكم في الألوهية جماعة من الإسماعيليين ألَّهت الحاكم وعبدته، وعندما قُتل تحولت هذه الجماعة للسكن في بلاد الشام، وبالتحديد في وادي التيم (جنوب شرق لبنان بين الجنوب والبقاع)، دعيت هذه الجماعة تاريخياً وفي المصادر باسم الدروز، نسبة لشخص إسماعيلي، اسمه (نشتكين الدرزي)، لكن ولاءها كان لحمزة بن علي الزوزني الذي مثل دور نبي الحاكم والمبشر بعودته. عندما سكن الدروز في وادي التيم جاوروا مجموعات من النصيرية سبقتهم في الاستقرار هناك، ولم يكن هناك ود بين الطرفين، لكن حالة العداء لم تتطور إلى الاشتباك المباشر، كما حدث مع الإسحاقية، بل توقفت عند الجدل الفكري الذي مارسه الدروز، ضد العقائد النصيرية التي اعتبرها حمزة بن علي عقيدة كفرية إباحية في إحدى رسائله المعروفة بعنوان “الرد على الفاسق النصيري لعنه الله”. وفي وقت لاحق، سيتحالف النصيريون مع الدروز في قتال الطلائع الأولى للإسماعيليين الحشاشين، عند ظهورهم في المنطقة في وادي التيم، أما الدروز فيما يبدو فلم يتوسعوا في مناطق سكنهم، باتجاه جبال الساحل الشمالية، وبقيت كتلتهم الأساسية في جبل لبنان، والمدن اللبنانية الساحلية في صيدا، وصور، وقد ذكرهم بنيامين التطيلي في رحلته، نهاية القرن السادس الهجري، أنهم في الساحل اللبناني، ونسب لهم عقائد إباحية، هي أقرب للنصيرية، مما يوحي أن الأمر اختلط عليه.
- بعد الانشقاق الدرزي عن الإسماعيلية، بعد موت الحاكم بأمر الله سنة 411هـ، حدث انشقاق آخر في الإسماعيلية الحاكمة في مصر سنة 487هـ، فقد مات الخليفة المستنصر حفيد الحاكم بأمر الله، ونشأ صراع بين ولديه المستعلي، ونزار على خلافته، وانتهى النزاع بقتل نزار، وانتصار المستعلي، فانقسمت الإسماعيلية لقسمين: المستعلية (البهرة حالياً)، والنزارية (الأغاخانية حالياً)، وقد مال حسن الصباح صاحب قلعة الموت إلى نزار، وكان هذا الميل هو سبب ظهور الجماعة الإسماعيلية (الحشاشون) في بلاد الشام، ثم تركزها في المناطق الجبلية في سهل الغاب منافسة ومزاحمة للنصيرية في تلك المناطق.
- في زمن المستنصر الذي حدث بعد موته الانشقاق الإسماعيلي، ظهرت من شرق الخلافة قوة ناشئة هم السلاجقة بقيادة سلطانهم طغرلبك الذين زحفوا إلى بغداد، بطلب من الخليفة العباسي، فدخلوا بغداد، وأنهوا التسلط الشيعي البويهي سنة 447هـ، ثم زحفوا نحو الشام في زمن السلطان ألب أرسلان، وخلال الفترة بين عامي 463-465هـ سيطروا على معظم بلاد الشام، وأنهوا الوجود الإسماعيلي الفاطمي الذي عاد، واستعاد بيت المقدس بعد سنوات، ولكن عندما حدث هذا كانت طلائع الصليبيين قد وصلت بلاد الشام في الحملة الصليبية الأولى سنة 492هـ، فوقعت بلاد الشام بين ضغط قوتين: السلاجقة من الشرق، والصليبيين من الغرب، فكان ذلك مما سرع عملية انحسار القوى الشيعية عموماً، وانسحاب أتباع الفرق الباطنية، لاسيما النصيريين، والجناح الإسماعيلي النزاري نحو المناطق الساحلية الجبلية، وكان الخطر الأكبر على أتباع هذه الفرق الباطنية من القوى السنية التي استعادت نفوذها وقيادتها لبلاد الشام في مواجهة الغزو الصليبي، خلال الدولتين الزنكية والأيوبية، فالنهضة السنية التي رعاها نور الدين زنكي من إزالة مظاهر التشيع، ونشر السنة أدت إلى إنهاء الدولة الفاطمية، ومدها الشيعي، ووضعت أتباع المذاهب الباطنية في حالة حصار، ضمن وسط سني، فلم يكن من خيار أمامها سوى التغير، بما يناسب متطلبات العصر، أو الرحيل، فانسحبت التجمعات النصيرية بشكل متدرج من مناطق وجودها في الداخل، نحو المعاقل الجبلية، حيث لا تطالها يد السلطة الحاكمة، فزال وجودهم من حمص، وحماة، ومدن الساحل اللبناني، ومن حلب معقلهم الأساسي إلّا قليلاً منهم آثر الإقامة متخفياً بعقائده، واستمر حتى العصر العثماني، وكذلك فعل من بقي من أتباع الإسماعيلية، فحل النصيريون، والإسماعيليون في المناطق الجبلية الساحلية متجاورين ومتحاربين غالباً.
الصراع الإسماعيلي النصيري
في عام 487هـ، عندما مات الخليفة الفاطمي المستنصر، وظهر الانشقاق المستعلي-النزاري كان حسن الصباح قد سيطر على قلعة الموت، وأسس جماعة الحشاشين الإسماعيلية المعروفة تاريخياً، وبدافع موالاته لنزار أرسل بعد مقتله إلى الشام أحد أتباعه، ويدعى بهرام الذي مارس نشاطاً دعوياً في حلب ودمشق منذ سنة 519هـ، وتقرب من حاكم دمشق السلجوقي البوري الذي شعر بخطره بعد حين، فأعطاه قلعة بانياس الجولان؛ ليتخلص منه، فاتخذها قاعدة للتوسع، ونشر الدعوة، ونحج بعد سنتين في دخول وادي التيم، حيث اصطدم مع تحالف نصيري درزي انتهى بقتله، وتبع ذلك عملية ملاحقة، وقتل لأتباعه في دمشق، وطردوا من بانياس، فاتخذوا من مناطق الجبال الساحلية الشمالية ملجأ تجمعوا فيه، واشتروا عام 526هـ قلعة القدموس، ثم قلعة الكهف قرب طرطوس.
انطلاقاً منها سيطروا على قلعة مصياف سنة 534هـ التي أصبحت مركزاً لهم، ثم وسعوا نفوذهم وسيطروا على قلاع: الخوابي، والعليقة، وأبو قبيس، والمرقب، وهي ما سميت بقلاع الدعوة، على مقربة من مناطق انتشار النصيريين الذين خضعوا لضغط الإسماعيليين، مع تسلم شيخ الجبل راشد الدين سنان قيادة الإسماعيليين في المنطقة سنة 557هـ، فكانت العلاقة متذبذبة، حيث يذكر مصدر إسماعيلي أن النصيريين من أشد أعداء راشد الدين، بينما يذكر أيضاً أن قسماً منهم وقفوا مع الإسماعيليين في نزاعهم مع الصليبيين، وفي جميع الأحوال كانت العقلية النصيرية في ذلك الوقت غالباً تساير الظروف، فقد تخضع للإسماعيليين، أو تنقلب عليهم إذا وجدت الفرصة، وقد تصبح صليبية إذا استدعى الأمر ذلك، وجاء في تقويم الأزمنة أن 60 ألف نصيري اعتنقوا المسيحية؛ ليتخلصوا من الأتاوات التي كانوا يدفعونها للصليبيين. والأمر نفسه يقال عن الإسماعيليين في علاقتهم مع محيطهم زمن شيخ الجبل، فقد كانت علاقته تتبع المصلحة الآنية أكثر من العقيدة، فقد يتحالف مع الصليبيين إذا ما جاء التهديد من صلاح الدين، فقد حاولوا قتله أكثر من مرة، ثم تحالفوا معه، عندما أوشك على اجتياح قلاعهم، ونفذوا عدة عمليات اغتيال بالصليبيين لصالح صلاح الدين.
بعد عام 567هـ، وبعد معركة حطين، واستعادة القدس 582هـ، مات شيخ الجبل سنة 588هـ، وبدأ الحشاشون يخسرون قلاعهم، وضعف تأثيرهم في الأحداث؛ لذا انكفؤوا نحو المنطقة المنتشرين فيها، ومارسوا مع من انضم من أكراد إلى المنطقة ضغطاً على النصيريين، دفع النصيريين للاستنجاد بقوة من خارج المكان لحمايتهم، فجاءهم المكزون السنجاري من جبل سنجار (سنجار إدلب غالباً، وليس سنجار العراق كما يزعمون) بحملتين، يبالغ النصيريون في أعدادها، ففي الحملة الأولى سنة 617هـ انهزم المكزون وأتباعه أمام الإسماعيليين، فانسحب وعاود الكرّة بعد ثلاث سنوات بحملة أكبر، هزم فيها الإسماعيليين وقاتل الأكراد، ولم ينسَ المكزون الإجهاز في طريقه على من بقي من الإسحاقية، فجمعهم وناظرهم، وأحرق كتبهم، وأعدم زعماءهم، ثم نظم أمور العلويين، وارتحل من المكان بنفسه تاركاً من جاء معه؛ ليستوطن المكان مما زاد من نسبة النصيرية مقارنة بالإسماعيلية، الذين سيصبحون مع الوقت أقل عدداً من النصيريين، وموضع الهجوم عليهم، واجتثاثهم حتى العصر الحديث.
استيطان النصيريين في جبال الساحل
خلال مرحلة استيطان النصيريين في جبال الساحل، خلال القرون الوسطى، ليس من الممكن تحديد أعدادهم، ولكن يمكن تحديد أماكن تواجدهم، فهم ظهروا في المناطق الداخلية أولاً حول حلب، ومنها انتشروا إلى سرمين، وسلمية، وحماة، وحمص، ومنها تمددوا نحو السفوح الشرقية للجبال الساحلية وفي المرتفعات حول طرطوس وصافيتا، أما الجبال شمال اللاذقية، فلن يظهر لهم انتشار فيها حتى العصر المملوكي. وبالنسبة للمدن الساحلية الرئيسية: اللاذقية، جبلة، بانياس، فقد بقيت حتى فترة قريبة ذات غالبية سكانية من المسلمين وبعض المسيحيين، ولم تكن أماكن استيطان للعلويين إلّا في التاريخ المعاصر، من خلال عملية تغيير التركيبة السكانية لهذه المدن في فترة ما بعد سيطرة العلويين على الحكم في سوريا.
___________________________________
من مقالات العدد الثاني عشر من (العربي القديم) الخاص باللاذقية – حزيران/ يونيو 2024
لقراءة العدد كاملاً اضغط هنا.