عقائد وأديان

حجّ السوريين الأول: حرية تسعى… وذاكرة تطوف

كانت أقدامهم تلامس الأرض، لكن أرواحهم كانت تعبر مسافات شاسعة، تقفز فوق حدود وسجون وحواجز

براء الجمعة  – العربي القديم

لم يكن الحج يومًا عبورًا في المناسك، بل عبورًا في النفس.لكن حجّ السوريين بعد التحرير، كان شيئًا آخر… ساروا بأقدام حرة إلى البيت الحرام، لا تعيقهم موافقة أمنية، ولا يُثقل ظهورهم جوازٌ محكوم بالاستبداد.

خطواتهم على أرض الحرمين كانت أثقل من مجرد خطوات، كانت تحمل سنوات من الانتظار، وأرواحًا علقت على حــدود مغلقة، وأحلامًا تكسرت على صخرة “ممنوع من السفر”.

كل خطوة كانت تمحو سنة من سنوات القهر، وكل نفس كان يستنشق عبق الحرية التي طال انتظارها.

حين لامست أقدامهم أرض الحرم، ارتعشت أرواحهم كما يرتعش طائر حبيس عاد إلى فضائه بعد طول سجن، وســــــالت دموعهم كما يسيل نهر كُسرت سدوده.في طوافهم الأول بعد عمرٍ من القيد، لم يطوفوا بالكعبة وحدها، بل داروا حـــــول جراحهم، واستحضَروا من غاب، وبكَوا من بقي.

كانت الكعبة في أعينهم وطنًا آخر يحتضن أوجاعهم دون تمييز، ويستمع لهمساتهم دون رقيب.

في كل شوط، كانوا يدورون حول ذاكرة وطن، حول صور أحبة فقدوهم، حول أزقة مدنهم وأماكنهم التي تاهت منهم في زحمة المعاناة.

لمست أيديهم الحجر الأسود فارتعشت، كأنها تلمس جزءًا من وطن مفقود، كأنها تستعيد لمسة أم أو أب أو طفل غيّبته سنوات العتمة.

كان الطواف دورانًا في فلك الذكريات، وكانت الكعبة مركزًا لكون من الأوجاع والآمال، تجذب إليها كل ما في صدورهـــم من ثقل، وتمنحهم خفة الروح التي نسوها.سَعَوا بين الصفا والمروة، وبين المنفى والوطن، بين الدمع والأمل، بين ماضٍ خذلهم ومستقبل يتلمّس النور.

كان السعي رحلة بين ضفتين، كما حياتهم المعلقة بين واقع مرير وحلم عنيد.

هرولوا كما هرولت هاجر، لكنهم كانوا يبحثون عن ماء الحياة لوطن عطشان، عن بصيص أمل في صحراء اليأس.

في كل شوط، كانوا يقطعون مسافة بين ذاكرتين: ذاكرة الألم التي أثقلتهم، وذاكرة الأمل التي تدفعهم للأمام.

كانت أقدامهم تلامس الأرض، لكن أرواحهم كانت تعبر مسافات شاسعة، تقفز فوق حدود وسجون وحواجز، تســـعى بين جغرافيا الوجع وجغرافيا الحلم.وفي عرفات، وقفوا كما لم يقفوا من قبل، بقلوب مكشوفة للسماء، لا تخشى سوى خالقها.

رفعوا أكفًا ثقيلة بالدعاء، لم تعد تخاف من عيون المخبرين، ولا من تقارير الواشين.

دعوا لمن سبقهم إلى الله شهداء، ولمن ما زال في الخيام، ولمن تشرد في بقاع الأرض.

كان الوقوف بعرفة وقوفًا بين يدي التاريخ، يسألون الله أن يكتب لهم صفحة جديدة، نقية كبياض ثيابهم.

وقفوا تحت شمس عرفة، لكن ظلال ثورتهم كانت تغطيهم، وأصوات من فقدوهم كانت تتردد في آذانهم مع كل “لبيك”.

كان جبل الرحمة أمامهم شاهدًا على دموع لم تعد تختبئ، وعلى صرخات لم تعد تُكتم، وعلى أدعية لم تعد تُهمس خوفًا، بل تُجهر إيمانًا وثقة.كانت التلبية في أفواههم وجعًا يُرتّل، لا نشيدًا يُلقَّن.

“لبيك اللهم لبيك” تخرج من حناجرهم كأنها صرخة حرية طال كتمانها، كأنها نشيد انعتاق من قيود الخوف.

كل “لبيك” كانت تحمل قصة صمود، وحكاية صبر، وملحمة شعب. 

لم تكن التلبية مجرد كلمات تُردد، بل كانت عهدًا مع الله أن يعودوا إلى أوطانهم حاملين معهم روح الحرية التي تنفسوها في رحاب بيته.

كانت أصواتهم تموج في الحرم كموج البحر، تعلو وتنخفض، تقترب وتبتعد، لكنها تحمل في طياتها رائحة الياســـــــــــــمين الدمشقي، وذاكرة زيتون ادلب، وصدى أجراس كنائس حلب، وهمس نواعير حماة. ودرعا وحمص وكل البقاع الســــــورية التي تأبى الاستبداد، وكان الدعاء حرًّا، كالخطوة الأولى على ترابٍ محرّر.

دعاء لا يراقبه أحد، لا يحصيه جهاز أمن، لا يفسره محقق.

دعاء يتسع للوطن بأكمله، للمدن المدمرة، للقرى المهجورة، للأحياء المنسية.

كانت الكلمات تخرج من قلوبهم صافية كماء زمزم، نقية من رياء الخوف وتصنع المديح الذي أجبروا عليه سنوات طويلة.

كان الدعاء يتدفق من شفاههم كنهر جارف، يحمل معه ركام سنوات من الصمت القسري، من الكلمات المحبوســـــة، من الصرخات المكتومة.وعند رمي الجمرات، لم يكونوا يرمون حصيات فحسب، بل كانوا يرمون سنوات الظلم والقهر.

كل حصاة كانت تحمل اسمًا لظالم، أو ذكرى لمظلمة، أو أثرًا لجرح.

رموا بقوة من استعاد إرادته، بعزيمة من استرد حريته.

كانت أيديهم ترتفع بالحصى وكأنها تحمل ثقل التاريخ، وتهبط بقوة من أراد أن يكسر جدار الصمت، أن يقول للظلم: كفى.

في كل رمية، كانوا يطردون شيطان الخوف من أرواحهم، يرجمون وحش الاســـــتبداد الذي جثم على صــــدورهم عقــــودًا، يقذفون بعيدًا كل ما علق بهم من ذل الخنوع وعار الصمت.وفي طواف الوداع، ودعوا أكثر من الكعبة.

ودعوا خوفهم القديم، ودعوا ترددهم، ودعوا ضعفهم.

حملوا معهم إلى سوريا قلوبًا أخف وأقوى، وعزائم أصلب وأنقى.

في كل خطوة من طواف الوداع، كانوا يعاهدون البيت العتيق أن يعودوا إليه يومًا بوطن معافى، وشعب متحرر، وأرض تنفضُ عنها غبار السنين.

كانت نظراتهم الأخيرة للكعبة تختزن صورتها في أعماق الذاكرة، كأنها أذكار ستحميهم في رحلة العودة إلى وطن ما زال يتلمس طريقه نحو الفجر، ما زال يبحث عن بوصلته في ليل طويل.عادوا إلى وطن ما زال يتلمس طريق الشفاء، لكنهم عادوا مختلفين.

عادوا وقد أدركوا أن التحرير ليس فقط تحرير الأرض، بل تحرير الروح أولًا.

وأن الحج ليس فقط رحلة إلى مكة، بل رحلة إلى الذات، إلى جوهر الإنسان الذي لا يمكن لأي مستبد أن يسلبه حريته.

عادوا يحملون في صدورهم كعبة الحرية، قبلة للأمل، ومطافًا للحلم، ومسعى للتغيير.

عادوا وقد تطهروا من أدران الخوف، واغتسلوا بماء اليقين، وتعطروا بعبير الكرامة المستعادة.حج السوريين بعد التحرير لم يكن مجرد فريضة أُديت، بل كان إعلانًا صامتًا أن الإنسان السوري قد عاد إلى الله، وإلى نفسه، وإلى حريته، بعد سنوات من الضياع والتيه والاغتراب والمعاناة.

كان بداية لعهد جديد، عهد يكتبه أناس عرفوا قيمة الحرية حين فقدوها، وأدركوا معنى الكرامة حين انتزعوها من براثـــــــن الظلم.

كان الحج لهم ميلادًا جديدًا، خرجوا منه كما يخرج الطفل من رحم أمه، عراة من كل قيد، أنقياء من كل خوف، مستـــــعدين لكتابة قصة جديدة على صفحات وطن يستحق الحياة.وفي قلب كل حاج سوري عاد من بيت الله، تسكن الآن مكة صغيرة، تطوف حولها الأحلام، وتسعى بين جنباتها الآمال، وترمي فيها كل يوم حصاة من حصيات اليأس، وتردد بصوت الواثق: لبيك يا وطن، لبيك.

وفي عيونهم الآن بريق جديد، بريق من رأى النور بعد ظلمة، ومن تذوق طعم الحرية بعد مرارة القيد، ومن لمس الكعبة بيد حرة، فأدرك أن الله أقرب إليه من حبل الوريد، وأن الوطن لا يموت ما دام في القلب نبض، وفي الروح أمل، وفــــــــي اللسان دعاء،وفي الأرض شعب لا ينحني لمستبد. 

زر الذهاب إلى الأعلى