وانفجر أبو كنج غضباً على عبد الناصر!
تقاسم حلفاء الحرب العالمية الأولى تَرِكَةَ ما سُمّي “الرجل المريض”، الإمبراطورية العثمانية؛ حيث أنهت بريطانيا تبعية مصر للخلافة العثمانية عام 1914 واستمرت سلطتها عليها، أما سوريا فكانت من حصة فرنسا حسب سايكس-بيكو عام 1916. بعد ربع قرن خرج الفرنسيون من سوريا، وبعد أربعة عقود وعامين، خرج الإنكليز من مصر.
برز نجم الضباط الأحرار في مصر عام 1952، وخاصة ذلك الضابط الشاب الأسمر الذي يحمل اسمه جاذبية الوعد، {جمال عبد الناصر}. بسرعة لافتة، تحوّل العسكري بلباسه المدني إلى حالة تجذب قلوب جماهير عربية متعطّشة للإحساس بوجودها وكرامتها، بعد تصدّيه للعدوان الثلاثي، وتأميمه لقناة السويس.
سوريا من جانبها، بدأت تتلمّس خطواتها نحو مستقبل حر، بأحزاب وبرلمان وحياة سياسية وصحافة حرة لبضعة أعوام؛ تسلّل خلالها العسكر إلى النسيج السوري في تحالفات وتناحرات سلطوية؛ ولتبدأ سوريا بالصحوة على انقلاب، لتنام على آخر.
رأى السياسيون السوريون والعسكر والشارع السوري أن الوحدة مع مصر عبد الناصر هي طريق الخلاص من عدم الاستقرار وتهديد الجيران وإسرائيل؛ ولكن كلاً لأهدافه وبطريقته. بدأ الضباط بلقاء مع عبد الناصر دون إذن حكومتهم. فكّر السياسيون الذين كانوا أكثر ميلاً للتأنّي؛ وهكذا كان عبد الناصر، ورأوا أن الوحدة تحتاج إلى وقت واتفاقات سياسية وعسكرية واقتصادية؛ حتى لا يكون هناك ردة أو خيبة أو إحباط. أخيراً التقى الضباط بحكومتهم، ومسدساتهم أمامهم على طاولة الاجتماعات، وتم الاتفاق أن يحمل شكري القوتلي الرئيس السوري المبادرة إلى عبد الناصر؛ وكان الإعلان، وكانت الوحدة.
استغل عبد الناصر ذلك الوضع القريب للاستجداء؛ فأراد أن يجعل من سوريا نسخة عن مصر رغم اختلاف طبيعة البلدين:
- حلّ الأحزاب، ليكون ذلك مقدمة لتصحُّر مديد للحياة السياسية في سوريا.
- سيطر على الجيش؛ فأبقى “مودعة” (البيان رقم واحد) حيّة في سوريا.
- جعل من الأمن وعبد الحميد السراج، والاعتقال، ومحاكم أمن الدولة قبضة حديدية على سوريا.
- جعل تأميم الاقتصاد من صناعة وزراعة وبنوك مطبِّقاً القوانين “الاشتراكية” المصرية.
- نال لغط وسخط اليمين والمتدينين. انفجر القِدْرُ، وكان الانفصال في الثامن والعشرين من أيلول 1961.
- مع طلوع شمس الانقلاب، كانت الشتائم والقنابل والمَسِيْرات والمظاهرات تُبَدِّلُ هتافاتها حسب ميل الكفة والمزاج ودرجات الخيبة، والانتهازية، والخوف، والبهجة. كقائد عام للجيش، عزل عبد الناصر ما سمّاه الضباط المتمردين؛ حاول إعادة السيطرة؛ ولكن عبثاً. ربما شعر أنه تخلّص من عبءٍ. أُعلِنت الجمهورية العربية السورية، وتسارع السعي لنيل تأييد دول عربية؛ وما كان بعضها بحاجة إلى مساع.
- أتى الحدث سريعاً، تماماً كما كان الإعلان عن الوحدة سريعاً. ربما تمت الوحدة بحسن نية؛ ولكن الانفصال لم يكن كذلك. فاقت المواجع الآمال، وحطّمت الخيبة الأمنيات. وتحوّل الحلم باليد الواحدة القوية التي يمكن أن تكون النموذج لبقية العرب إلى حالة منفّرة، عاد القذافي –الذي يَعُدُّ نفسَه تلميذاً لعبد الناصر- وجرّبها مرات ومرات، لينفر العرب منها أكثر؛ وليستعيض عنها حافظ الأسد بــ “التضامن العربي”، ليتحوّل هذا التضامن إلى مزيد من التشرذم العربي.
- ومن باب الطُّرْفَةِ حول الموضوع برمّته، روى لي والدي هذه الحادثة:
- بعد أيام من انقلاب عسكر “الإقليم الشمالي” /سوريا/ على الوحدة، والانفصال عن “الإقليم الجنوبي” / مصر 1958/، وفي مضافة أبو علي طرودي الصحناوي، التي كانت تُسمى (المَشْرَف)، في قرية الجنينة التابعة لمحافظة السويداء، وبحضور ما يقارب الأربعين شخصاً من القرية وخارجها، وقبل الغداء بساعة، كان الحديث عن أعوام الوحدة التي شهدت لسوء طالعها جفافاً قاسياً على سوريا، كان أبو كنج أخو المضيف غاضباً جداً على عبد الناصر، فكال له السباب والشتائم، محمّلاً إياه سبب الانفصال. صمت القوم للحظات، وانطلق صوت هادىء لأحد الحضور، المعروف بذكائه وخبرته وحكمته، وقال هازئاً:
- “لَه، لَه، يا بو كنج ما معك حق تشتم عبد الناصر؛ فهو ألقى عشرات الخطابات وشتم أمريكا وأوروبا والعرب، ولكنني لم أسمعه يوماً يوجّه إليك شتيمة”.
- لم يكن أبو كنج إلا ترجمةً لصوت شــــعب عـــربي كان ضحية للوحدة العربية السورية المصرية التي بدأت بحماس وعاطفة واعتباطية، وانتهت بخيبة وعاطفة وانتكاسة، لغياب الحكمة والرشاد في الحكم.
_________________________________________
من مقالات العدد الثالث من صحيفة (العربي القديم) الخاص بذكرى مرور 62 عاماً على الانفصال- أيلول/ سبتمبر 2023