كينونة الإنسان السوري بين قيد الاستبداد وأفق الحرية
في ظل نظام قمعي، تصبح الأفعال اليومية مليئة بالتناقضات، حيث يضطر الإنسان إلى اتخاذ قرارات تتعارض مع قيمه من أجل البقاء
براء الجمعة * – العربي القديم
في الحالة السورية، التي عاشت تحت وطأة استبداد نظام عائلة الأسد لعقود، يظهر بوضوح أن الإبداع والقيم والأخلاق لا يمكن أن تنمو وتزدهر إلا في ظل الحرية. هذه الحرية ليست ترفاً فكرياً، بل شرط أساسي ومناخ صحي لتمكين الإنسان من أن يكون حراً لا عبداً، ليعبّر عن كينونته بأجمل صورها، وليحقق الانسجام بين معتقداته وأفعاله. عندما يُحرم الإنسان من الحرية، يفقد جزءاً جوهرياً من إنسانيته، ويتحول إلى كائن يسعى فقط للبقاء وسط ظروف قمعية تسلبه أمانه الوجودي وتدفعه إلى التنازل عن أحلامه وآماله في سبيل النجاة.
عالم النفس الإيجابي مارتين سيليجمان، مؤسس هذا الفرع من علم النفس، قضى حياته في دراسة الكينونة الحرة، مع التركيز على ما يختار الإنسان فعله عندما يتحرر من قيود القهر والإكراه. يرى سيليجمان أن الإنسان عندما يعيش في بيئة مستبدة، فإن إرادته لا تكون مستقلة، بل تتحكم فيها منظومة من القيود الثقافية والاجتماعية التي تشوه قدرته على التعبير عن ذاته. في سوريا هذه القيود تجلت بوضوح في نظام اعتمد على القمع كأداة للتحكم، حيث أصبح الخوف سيد الموقف، وحيث تعلم السوريون أن أي محاولة للتفكير بحرية أو التعبير عن آرائهم قد تكلفهم حياتهم.
قبل أن نتصور مستقبل سوريا بعد رحيل هذا النظام، من الضروري أن نضع في الاعتبار كيف أثّر هذا الاستبداد على نفسية السوريين. عقود من القمع صنعت جيلاً يعاني من تناقضات عميقة بين ما يؤمن به وما يعيشه. اضطر السوريون للتكيف مع واقع يفرض عليهم التنازل أو المورابة عن الكثير من مبادئهم وقيمهم وأحلامهم، في مقابل النجاة. تحت هذا الضغط، تراجعت الأخلاق والقيم، ليس لأن الشعب السوري يفتقدها، بل لأن البيئة التي يعيش فيها لا تتيح لها التواجد والتفاعل و الازدهار. عندما يُجبر الإنسان على العيش في خوف دائم، فإنه يفقد جزءاً من كينونته وهويته، ويصبح أقل قدرة على الإبداع والتفكير الحر.
رحيل نظام عائلة الأسد يمثل ضرورة حتمية لاستعادة كرامة الشعب السوري. لكنه ليس نهاية الطريق. الحرية التي ستتحقق بعد هذا الرحيل ستكون نقطة البداية فقط. سيكون على السوريين إعادة بناء مجتمعهم على أسس جديدة، أسس تمنح الأفراد حرية التعبير عن أنفسهم، وتوفر لهم الأمان الوجودي الذي افتقدوه لعقود. هذا الأمان ليس مجرد غياب للخوف، بل هو شعور داخلي بأن الإنسان يستطيع أن يعيش وفقاً لمعتقداته وقيمه دون أن يواجه خطر الانتقام أو القمع.
الحرية ليست هدفاً في حد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق مجتمع متوازن ومنسجم أخلاقياً وقيمياً. عندما تتحرر إرادة الإنسان، يصبح قادراً على تحقيق الانسجام بين ما يؤمن به وما يفعله. في ظل نظام قمعي، تصبح الأفعال اليومية مليئة بالتناقضات، حيث يضطر الإنسان إلى اتخاذ قرارات تتعارض مع قيمه من أجل البقاء. في مجتمع حر، هذا التناقض يختفي تدريجياً، ويصبح الناس قادرين على العيش بصدق وشفافية مع أنفسهم ومع الآخرين.
لكن الحرية وحدها لا تكفي. بعد سقوط النظام، سيكون هناك حاجة إلى إعادة بناء الهوية الوطنية السورية على أسس تعزز القيم والأخلاق الكريمة والرحيمة. ستحتاج سوريا إلى جيل جديد من القادة الذين يفهمون أن مهمتهم ليست فقط إدارة البلاد، بل أيضاً إعادة بناء النفوس التي دمرها الاستبداد. ستكون هناك حاجة إلى برامج تعليمية وتربوية تعزز قيم الحرية والاحترام والتفهم المتبادل، وتُعيد للسوريين إيمانهم بأنفسهم وبقدرتهم على بناء مستقبل أفضل.
الإبداع أيضاً سيكون عنصراً أساسياً في إعادة بناء سوريا. في ظل الحرية، سيجد السوريون أنفسهم قادرين على التعبير عن أفكارهم وابتكاراتهم بطرق لم تكن ممكنة من قبل. الإبداع لا يزدهر إلا عندما يشعر الإنسان بالأمان والحرية، وعندما يكون لديه الفرصة لاستكشاف أفكاره دون خوف من العقاب. سيكون على سوريا أن تخلق بيئة تتيح للإبداع أن يزدهر، لأن هذا الإبداع سيكون أحد المحركات الرئيسية لإعادة بناء البلاد.
في النهاية، لا يمكن الحديث عن الحرية دون الحديث عن الأمان الوجودي. هذا الأمان هو الذي يسمح للإنسان بأن يعيش وفقاً لقيمه وأخلاقه، وهو الذي يتيح للإبداع أن يزدهر. في ظل نظام الأسد، فقد السوريون هذا الأمان، لكنهم لم يفقدوا الأمل. الأمل هو الذي دفعهم إلى مواصلة مواجهتهم للاستبداد، وهو الذي سيقودهم في المستقبل إلى بناء مجتمع جديد، مجتمع يكون فيه لكل انسان الحق في العيش الكريم، دون خوف أو قمع.
سوريا بعد الأسد ستكون مختلفة. لن تكون مثالية، لأن بناء مجتمع جديد ومتعافي بعد عقود من القمع ليس أمراً سهلاً. لكنه سيكون مجتمعاً لديه فرصة حقيقية لتحقيق التوازن والانسجام بين القيم والأخلاق والإبداع. هذه الفرصة ستعتمد على قدرة السوريين على التعلم من الماضي، وعلى إيمانهم بأن الحرية ليست فقط حقاً لكل إنسان، بل هي أيضاً ضرورة جوهرية لخلق مجتمع متماسك وقوي. عندما تتحقق هذه الحرية، ستجد سوريا نفسها قادرة على الازدهار من جديد، وستكون مثالاً على أن الكينونة الحرة هي من الركائز الأساسية لكل نمو وتعافي وازدهار.
* مختص في الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي