صحافة الطّغيان المُبكّرة
العربي القديم – عمر الشيخ
عندما أستعيد شريط اللّحظات الأولى للتفكير بالقول وإبداء الرأي، متسائلاً: لماذا بدأت أقول وأكتب…؟ تطاردني – تدريجياً – عشرات الصّور الذهنيّة القادمة من سورية، صور لسلوكيات منظمة “اتحاد شبيبة الثّورة” الرديفة لحزب “البعث” وطلائعها المدجّنة، مناخها العام، تفاصيل الحياة الاجتماعية فيها، هيمنتها المُطلقة على عالم الشّباب وتحجيمه.
كنت أبحث عن سبيل للتعبير الفكريّ. ثمّة أسئلة تأتي من المُشاهدات وتراكم القراءات. كنتُ أشعر أن هناك ما هو مُغيّب في وعيي الذاتيّ، ولكن رغم ذلك دخلتُ إلى أندية الشبيبة بحثاً عن مساحات ليتنفس فيها العقل ومن ورائه المخيلة والأفكار، كان أكثر الأندية قرباً إلى مشاغلي هو “النادي الإعلاميّ” وكنت حينها مسلوب الإرادة إلا قليلاً، وقد نُسّبت بقوة أخي الكبير وأمره إلى “رابطة الشاغور” المنطوية تحت “فرع دمشق” لشبيبة الأسد أو الثورة، إذ لا فرق، فقد كانت “القائد” يمثّل كلّ شيء ثوريّ وفكريّ وإعلاميّ وإبداعيّ؛ كأنّه المُخلّص والمعلّم (…) لماذا؟ لا أعرف؟ وذلك ما استنتجته في سنواتي المُبكّرة أثناء العمل الإعلاميّ مع عناصر “حزب البعث” المتجذّرين في الحياة الاجتماعيّة، حولي، كان هناك البعثيّ الإعلاميّ، والبعثيّ المُخترع، والبعثيّ الرياضيّ، والبعثيّ السياسيّ…إلخ.
كانت النشأة لمعظم المراهقين والشباب في سورية تحت اليد الحديديّة لتكتلات الحزب الحاكم من نقابات واتحادات ومنظمات، ترعى تحرّكات الجميع وهدفها الأساسيّ -حسب ما فهمت- هو الإمساك بالعقل والفكر تحت وصاية “البعث”.
كانت تسمّى المدارس الثانوية بـ “الـوحدات الشبيبية” حسب أدبيات ذلك “الاتحاد”، ويمكن أن تقرأ كلمة “الوحدة” على أنّها جزءٌ من جيش الطلاب والطالبات في المدارس، ويمكن أن يتسلّح هذا الجيش في أيّة لحظة تقررها قيادته “الأمنيّة” في دولة البعث!
وكان لكلّ “وحدة” هيكل قياديّ مصغّر يتبع شكلاً ومضموناً لهياكل قياديّة مُشابهة له في الروابط “الشبيبيّة” وذلك من خلال المسؤولين عن ملفات: البيئة، الإعلام، الرياضة، العلوم، الفن… والروابط تتبع للفروع في المدن والتي تتبع بدورها لقيادة الاتحاد. وكلّ تلك الواجهات التصنيفيّة، المزعومة، ضمن هذه الشجرة التنظيمية، كان ينقصها شيء جوهريّ وحيد وهو أن تكون حرّة.
في “الوحدة” التي كنت أمثّلها، كنت أُصدر مطويّة إعلاميّة اسمها “الرّسالة”، دورية شهريّة، بأربع صفحات، تتضمن مجموعة من الأخبار المنحولة من جريدة “المسيرة” التابعة للشبيبة، والتي كانت أسبوعيّة، وذاك التحرير الوارد في تلك المطوية ليس من قراري تماماً، إضافة إلى أشياء كنّا نقتبسها من المجلات العلمية وبعض المساهمات من “الرفاق” وكذلك بضع قطع ساخرة، كنت أحرّرها بجمل قصيرة، محاولاً التهكم من مظاهر العجز التربويّ في فهم متطلبات الشباب، وكانت التحركات والنصوص تحت عين الرقيب، ذلك الرفيق الذي لا يتوقف عند أيّة عبارة ساخرة مهما كانت تتناول الرفاق الذين لا يعجبونه باستثناء “الرفيق القائد”!
ومنذ ذلك الحين فهمت أن دائرة التناول محددة بجملة من المحظورات، حين جلست في مكتب الرفيق المسؤول الإعلاميّ ضمن مقر الرابطة قرب منطقة الاطفائية بدمشق.
“الرفيق” الذي ألحّ في أحد الأيام على أن تكون صورة “الرئيس” إلى يسار اسم مطويّة “الرسالة” في الترويسة؛ صورة تظهره “مبتسماً” على حد وصفه، بدلا من صورته وهو يرتدي البدلة العسكرية، ويناظرها في الجهة اليمنى شعار “الاتحاد”. لأن الشبيبة الآن تحاول أن تكون منظمة سياسية اجتماعية فقط، رغم أن لديها فصائل عسكرية جاهزة لأيّة معركة تهدّد استقرار البلد، وبحسب الرفيق دائماً، فإن النشاط الآن هو سياسيّ اجتماعيّ وتربويّ، ولا بدّ من الانتباه لهذا الجانب في خطابنا الإعلاميّ!
كان ذلك عام 2003، وحينها رفعت “شبيبة البعث” الشّعار القائل “مع البشار من النهار إلى النهار” وكنا نطبع ذلك في المطويّات أو كما يسموّنها “النشرات” الإعلاميّة ضمن “الوحدات”، وكنت أشعر أن “نهج هذا البشار” هو مجرّد نسخة مطابقة من الأفكار الخاوية -لغويّا وعمليّاً- لخطاب والده “حافظ” طيلة العقود الماضية. خطاب كان ينتشر فوق اللافتات القماشيّة المرفوعة على جدران قاعات مؤتمرات حزب البعث وفيما بعد تنتقل إلى مؤتمرات ابنتهُ المراهقة: مُنظمة “اتحاد شبيبة الثورة”.
كنتُ أحاول على الدوام الاقتراب من العمل الجديّ في الاعلام، ولكن منغصات العمل الحزبيّ في تلك “المنظمة” المسؤولة عن مراقبة الشباب والتي تسعى لضمان تسطيح عقولهم بالرحلات الترفيهية واللقاءات التعارفيّة والأندية المزعومة، كانت على الدوام تدفعني للانحصار في ما تفرضه مصلحة الحزب وقيادته وحتى أنها كانت تعتبر -أي المنظمة- السقوف النقدية التي توجد في صحف تابعة للدولة مثل “تشرين” و”الثورة”؛ هي انتقادات يجب التخفيف من حدّتها ولو على مستوى الكتابة عن الوضع الخدميّ وتحقيقات الفساد الثقافيّ والاقتصاديّ الضاربة في عمق المجتمع السوريّ، حيث كان يبدو للمتابع أن ذلك المسرح الهزيل من التنفيس الإعلامي يتبلور بين صفحات الجرائد الرسمية برعاية أساسيّة من النظام الحاكم وأذرعه الإعلاميّة.
لماذا يا ترى كنت أريد القول وكنت أحاول التواصل مع الآخر في مجتمعي من خلال الكتابة؟
كان الاختباء خلف الشّعر فرصة ذاتية للبحث عن غاية الوجود، متعته، معناه، جدوى الحياة… هي أفكار كانت تجول في خاطري، وحتى اللحظة أعتقد أن قدرتي على التنظير للموضوع الفنيّ في الشّعر، تبدو متواضعة تماشياً مع تجربتي في كتابة ما يشبهني ويشغلني، ولكني بالرغم من ذلك أدون ما أعتبر أنه تحليلٌ جماليٌّ لفهم تلك الحالة الإنسانيّة الخاصة التي تزيح عن كاهل المرء الكثير من الأشياء الحسيّة والأفكار والصور والذكريات والمرارات والأحداث والصرخات… بينما في العمل الكتابيّ الصحفيّ، كنت أقوّم المشهد، أحلّله، أصوّب فيه، لأفهمه، أنا على الأقل! وكان ذلك يأتي من المباشرة في قراءة الحالة الثقافية -مثلاً- في سورية، وفي العاصمة دمشق، من خلال الكتابة عن الكتب ومتابعة الأنشطة والظواهر الثقافية أيضاً، ولكن السنوات التي سبقت لحظة حسمي لأمر أن أكون كاتباً صحفياً، شكّلت قفزة تمرد كبيرة ضدّ أخي الكبير والشبيبة، ليس ضدّه بالمعنى الأسري، إنما بالمعنى السياسيّ، رفض التبعية المطلقة للعقائد والأفكار التي تكون وليدة المنزل منذ وعينا على العالم ودون التفكير بأي بوادر نقدية ضدها.
كان أخي يتوارى في تلك “المنظمة” خوفاً من فحوصات الولاء البعثيّ في هذه الدولة الفاشية، بينما بالنسبة لي كنت متحرراً من كلّ ذلك وأعرف كيف أمرّر أفكاري النقديّة وكيف أصل إلى الإحاطة بما أريد، دون اصطدام مباشر مع السلطة التي قد تؤذيني أمنياً، كنت أفهم اللّعبة جيداً، فكتبت منذ مطلع العام 2009 مع جريدة (النهار) اللبنانية، ولم يعد يعني لي ما مررت به من صحافة الطّغيان المُبكّرة، حيث ساهمت تلك المرحلة بشكل من الأشكال في طرحي للأسئلة عن جدوى الصحافة والإعلام إذا كانت مجرد أداة قتل مجازيّ للوعي بيد السلطة، وليست سلاحاً بيد الشعب وملكاً لحريته وكرامته وكاشفاً لهمومه وصرخاته.
(كاتب صحفي سوري- قبرص)
___________________________
من مقالات العدد السابع من مجلة (العربي القديم) كانون الثاني/ يناير 2024