العربي الآن

عدالة انتقالية نسيت النساء: حين يُعاد بناء الوطن على ذاكرة منقوصة

إعادة بناء الدولة لا تكون ممكنة إلا حين تُستعاد كرامة النساء في كل مستويات الحياة العامة والخاصة.

لارا المحمد – العربي القديم

بعد سقوط النظام، يتنفس المجتمع هواءً جديداً، وتتعالى الأصوات المطالِبة بالمحاسبة، بالكشف عن الحقيقة، وببناء مستقبل أكثر عدلاً. تُرفع شعارات “العدالة الانتقالية” بوصفها الجسر الأخلاقي والسياسي نحو زمنٍ لا مكان فيه للقمع. غير أن هذا الجسر، في كثير من الأحيان، يُبنى على ذاكرة منقوصة، تتجاهل نصف الحقيقة، ونصف المجتمع — النساء. الحديث عن العدالة الانتقالية عادة ما يتركز حول الانتهاكات السياسية الكبرى: السجون، القتل، التهجير، النهب المنظم. لكن خلف هذه الوقائع “الكبرى” تختبئ تجارب يومية، جسدية، نفسية، وجندرية لنساءٍ دفعن الثمن مضاعفاً. فبينما يُحتفى بالمعتقل السياسي الذي خرج من السجن بطلاً، تُواجه المعتقلة السابقة نظرات الشك، وتُعاقَب بالصمت الاجتماعي، وكأنها لم تنجُ من السجن بل خرجت منه إلى محاكمة أخرى، أقسى وأطول.

النساء بين الصمت والإنكار

في معظم تجارب العدالة الانتقالية العربية، لم يُفتح نقاش جدي حول موقع النساء في عملية العدالة، ولا حول طبيعة الانتهاكات التي تعرّضن لها. آلاف الناجيات من العنف السياسي أو الجنسي ما زلن بلا منصة آمنة تحمي شهاداتهن، ولا إطار قانوني يعترف بمعاناتهن. لم يحصلن على تعويض، ولا على اعتراف رمزي، ولا حتى على اعتذار رسمي. وكأن المجتمع الذي صمت عن معاناتهن في زمن الخوف، يختار أن يصمت مجدداً في زمن الحرية. هذا الصمت ليس بريئاً. إنه امتداد لبنية ثقافية ترى المرأة “تابعاً” في الحكاية الوطنية، لا “صانعةً” لها. فحين يُسأل الرجال عن معاركهم السياسية، تُسأل النساء عن أزواجهن أو أبنائهن. وحين تُروى قصص النضال، تُذكر الأسماء الذكورية في الصفحات الأولى، بينما تُدفن تضحيات النساء في الهوامش أو تُختصر في جملة عابرة: “وكانت إلى جانبه زوجته الصابرة”. لكن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير. فنساء كثيرات لم يكنّ “إلى جانب” الرجال فقط، بل في الخطوط الأولى: ناشطات، منظمات، مقاومات، أو حتى أمهات صنعن من الحزن ذاكرة ومن الصبر فعلاً سياسياً.

العدالة التي تُقصي النساء ليست عدالة

العدالة الانتقالية، في جوهرها، ليست عملية قانونية فحسب، بل فعل مجتمعي يروم إعادة ترميم الذاكرة الجماعية، ومصالحة الماضي مع الحاضر. لكن كيف يمكن لهذه المصالحة أن تكون صادقة إذا استمر تجاهل الألم النسوي بوصفه “تفصيلاً” لا يستحق المساءلة؟

العدالة التي لا تراعي البعد الجندري تُعيد إنتاج المنظومة نفسها التي ولّدت القمع. لأن العنف ضد النساء لم يكن حادثاً عرضياً، بل جزءاً من آليات السيطرة والاستبداد. النساء في السجون لم يُعذَّبن فقط لأنهن معارضات، بل لأن أجسادهن كانت تُستعمل كساحة لإذلال المجتمع بأسره. إن تجاهل هذا البعد يجعلنا نعيد ترميم النظام الذكوري تحت مسمى العدالة. في تجارب دول أخرى — مثل رواندا، وتشيلي، وجنوب أفريقيا — جرت محاولات متقدمة لإدماج النساء في مسار العدالة الانتقالية. أنشئت لجان استماع خاصة بالنساء، واعتُمدت مقاربات تراعي أثر العنف الجنسي والاجتماعي. كان الهدف ليس فقط التعويض المادي، بل الاعتراف الرمزي الذي يُعيد للنساء مكانتهن في الذاكرة الوطنية. في المقابل، ما زال العالم العربي عالقاً في مرحلة “الإنكار”، وكأن العدالة مشروع سياسي نخبوي لا يعني النساء إلا بقدر ما يُمسّ رجالهن.

ذاكرة مبتورة وتاريخ يُكتب من طرف واحد

التاريخ، كما يُروى في المدارس وفي الإعلام، ما زال يُكتب بعيون ذكورية. حين نقرأ عن “ثورات الشعوب” أو “حركات التحرر”، نكاد لا نرى وجهاً نسائياً واحداً إلا بوصفه رمزاً للأم أو الأخت أو الزوجة. هذا الاختزال لا يسرق من النساء فقط حقهن في الاعتراف، بل يسرق من المجتمع حقه في الحقيقة. فلا ذاكرة وطنية تكتمل دون نسائها، ولا عدالة يمكن أن تُبنى على النسيان الانتقائي. إن غياب العدالة الجندرية عن عملية العدالة الانتقالية يعني أن المجتمع لا يزال عاجزاً عن مواجهة نفسه. فالمصالحة مع الماضي لا تعني فقط كشف ما فعله النظام، بل أيضاً ما فعله المجتمع حين صمت، حين تواطأ، وحين قرر أن بعض الجراح “تُنسى لأنها محرجة”. لكن الجراح التي لا تُروى لا تلتئم، بل تتحول إلى رواسب مرّة تفسد طعم المستقبل.

من أجل عدالة نسوية شاملة

العدالة الانتقالية النسوية ليست ترفاً فكرياً أو مطلباً فئوياً، بل شرطاً لبناء مجتمع متوازن. إنها عدالة تسعى إلى إعادة توزيع الاعتراف، لا السلطة فحسب. أن تُسمع أصوات النساء في المحاكم وفي لجان الحقيقة يعني أن نعيد كتابة السردية الوطنية بطريقة أكثر صدقاً وشمولاً. أن يُعترف بمعاناتهن يعني أن الوطن يعترف بجزء من ذاته كان يُنكر وجوده.  كما أنّ العدالة النسوية لا تقتصر على توثيق العنف الجسدي أو الجنسي، بل تمتد إلى الاعتراف بأشكال العنف الرمزي والاقتصادي الذي تَعَرَّضت له النساء بسبب الحرب أو القمع: فقدان المعيل، التهميش في سوق العمل، التمييز في برامج التعويض، وغياب الدعم النفسي. كل ذلك جزء من العدالة التي يجب أن تُناقش، لأن إعادة بناء الدولة لا تكون ممكنة إلا حين تُستعاد كرامة النساء في كل مستويات الحياة العامة والخاصة.

من الذاكرة إلى المستقبل

قد يقول البعض إن “الوقت الآن للبناء لا للمحاسبة”، وكأن الاعتراف بالنساء وتوثيق معاناتهن ترفٌ يؤجل التقدم. لكن التجارب العالمية أثبتت أن المجتمعات التي تتصالح مع ماضيها هي وحدها القادرة على بناء مستقبل مستقر. المصالحة الحقيقية ليست نسياناً، بل مواجهة شجاعة للحقيقة، بكل وجوهها المؤلمة، كي لا تتكرر. وإذا كانت النساء قد صمتن طويلاً خوفاً أو خجلاً، فالمطلوب اليوم أن يتحول هذا الصمت إلى سردٍ علنيّ، إلى أرشيف وطني، إلى حكايات تُروى في المدارس والجامعات، حتى يعرف الجيل الجديد أن الحرية لم تكن مجانية، وأن النساء كنّ جزءاً من ثمنها.

لا ديمقراطية بنصف ذاكرة

في نهاية المطاف، العدالة الانتقالية التي لا تراعي النساء ليست فقط عدالة ناقصة، بل مشروع مصالحة فاشل منذ بدايته. لأنها تُبقي الجرح مفتوحاً تحت الجلد، وتعيد إنتاج التهميش داخل عملية يُفترض أنها تُنهيه. لا يمكن لديمقراطية أن تقوم على ذاكرة مبتورة، ولا لوطن أن يُشفى وهو يُنكر نصف تاريخه. إن إنصاف النساء ليس خطوة رمزية، بل حجر الأساس في أي بناء جديد، لأن من دونهن، يبقى الوطن ناقصاً، والعدالة مجرّد عنوان جميل يخفي تحته ظلّاً طويلاً من النسيان.

زر الذهاب إلى الأعلى