شكوى عمرها قرابة المئة عام: التعصب الذميم في لبنان
بقلم: قاسم الهيماني
صاحب جريدة (الفيحاء) الغراء
في عام نشرت 1928 نشرت مجلة (العرفـان) اللبنانيــــة، جانباً من مذكرات صاحب جريدة (الفيحاء) قاســم الهيمانـي فكانت الشكوى من العنصرية والتعصب، وغياب روح التسامح هي المشكلة الأبرز التي لفتت انتباهه في تعامل اللبنانيين مــع المصطافين العرب، الآتين من مصر أو الشام! (العربي القديم)
كان لي في الآونة الأخيرة جولة في مصايف لبنان أردت منها ترويح النفس، وما كنت أريد أن أكتب كلمة عن الاصطياف في لبنان لولا أن صدم نظري ذلك الفرق البعيد بين عدد المصطافين هذه السنة وعددهم السنة الماضية. ويقولون في لبنان أن عدد المصطافين هذه السنة لا يكاد يبلغ نصف عددهم في السنة التي مرت. وخاصة أن عدد المصطافين المصريين في هذه السنة قليل جداً.
وقد أردت أن أفهم سبب عدم الإقبال في موسم الاصطياف الحاضر من بعض اللبنانيين، فلم أظفر بتعليلات وافية. فقد كان بعضهم يعللها بالحالة الاقتصادية الراهنة، وليست الأزمة الاقتصادية هذا العام أشد منها في عام مضى، وكان آخرون يعللون انصراف المصريين عن الاصطياف في لبنان بانشغال كبار المصريين بشؤونهم السياسية الحاضرة، وما هذا بالتعليل الذي يطمئن إليه الإنسان ما دامت المصايف في أوروبا والأستانة مملوءة بالمصريين.
وأظن أنني لا أقول شيئا جديدا إذا قلت أن اللبنانيين لايزالون بحاجة إلى شيء من التسامح الديني، والنزول عن كثير من تلك العنعنات والخرافات الخاوية التي ورثوها عن القرون البائدة، ليستطيعوا ان يكونوا حقيقيين بشَد الرحال إلى بلادهم، والاصطياف بينهم، وخاصة من تلك الطبقة الراقية من المصريين المسلمين الذين يؤلمهم أن يشاهدوا روح التعصب في بلاد يجب أن تكون أوساطها الاجتماعية خالية من الشوائب مثل جوها النقي الصافي.
وليس هذا شعور المسلمين المصريين فحسب، بل هو شعور المسلمين أنفسهم الذين يعيشون مع المسيحيين اللبنانيين تحت سماء واحدة. والمصطاف لا يقنع من الاصطياف بالصحة والهواء العليل والماء السلسبيل، وإنما يريد أن يجد في عيون أهل البلاد صفاءً وإخلاصاً، وأن يطالع في وجوههم حبا ورضواناً. أما وهو لا يظفر بشي من هذا، ولا يظفر إلا بالقليل مما أفلت من سلطة الأكليروس والتقاليد الوراثية العتيقة، فأجدر به أن ينفر من الاصطياف بلبنان وأن يطير حيث يتاح له رقة الهواء، وصفاء العيون والسماء!
وفي وسعي أن أقدم دليلا على قولي هذا. هذه القرية الصغيرة التي فتحت للاصطياف حديثا، وهي قرية (سير) (1) قرب طرابلس؛ فقد قصدت هذه القرية لزيارة صديق لي فيها، فوجدتها تعج بالمصطافين من أهل طرابلس، وقد اجتمعت إلى بعضهم فوجدتهم راضين كل الرضاء عن مصيفهم لجماله الطبيعي أولا، ثم لسكون أهله إليهم، وخلوص سمائهم من روح التعصب التي كانوا يستروحونها في قرى لبنان الشمالي. وقد حدثني بعضهم عما كانوا يجدونه من أثر هذا الروح الذميم يوم كانوا يصطافون في هذه القرى، قبل فتح طريق (سير)، ما دهشتُ منه عجباً.
وعلى ذكر طريق (سير) أريد أن أذكر للقارئ الكريم أن هذه الطريق هي أثر من آثار الثورة السورية، فلولا قدوم الثائر الشهير سعيد بك العاص إلى (سير) لما أنشئت هذه الطريق، ولما أتيح لهذه القرية الجميلة أن تفتح صدرها الأخضر للمصطافين، وفي هذا فضل للثورة السورية أو لسعيد بك العاص على قرية (سير) وجرود الضنية. وفي هذا دليل أيضاً على إهمال الحكومة اللبنانية لقرى الاصطياف الإسلامية، أو على ذلك الروح الذميم الذي نحن في صدده. فما كان أحرى بالحكومة اللبنانية بأن تعنى بتعبيد هذه الطريق إلى مصيف (سير) الجميل قبل الثورة، لولا أن شبح التعصب ماثل في القصر الكبير! وهناك في جرود (عكّار) مصايف جميلة جداً، كان حظها كحظ (سير) من الحكومة اللبنانية، فبقيت مقفلة في وجوه المصطافين ولم يتح لها سعيد عاص آخر يشب فيها الثورة ويفتح الطريق؟
نعم إنك لا تجد اليوم في هذه القرية المفتوحة حديثاً للاصطياف ما تجده في غيرها من قرى لبنان من وسائل التمتع والإتقان، ولكن الطرابلسيين راضون عن مصيفهم الجديد لما ذكرناه لك آنفاً، ولأن (سير) فضلا عن ذلك تمتاز بمناظرها الطبيعية الفتانة ومائها الدافق المثلج، وبوفرة أثمارها وخضرتها.
وعلى ذكر الإتقان ووسائل التمتع، أعود إلى ذكر مصيف زحلة وبلعلبك وصوفر وغيرها، فقد شهدت في فندق (بالميرا) و(عربيد) و(خوام) و(كونتينتال) في بعلبك، وكذلك في نُزل (قادري) و(الصحة) و(الطرابلسي) في زحلة، من أسباب الإتقان والاستعداد ما أعجبتُ به كيثرا وخاصة في فندق (عربيد) الحديث بشكل معداته الأوروبية، ولو أن امثال هذه الفنادق المتقنة كانت محاطة بذلك الجو الصافي المشبع بروح التسامح والحب الذي نرجوه للبنان، لكان لبنان اليوم أعظم مصيف في العالم،
ونحن نكتب هذه الكلمة بروح الإخلاص والنزاهة ونرجو من أخوتنا أن يتلقوها بمثل هذه الروح، وألا يفهموا منا غير الحقيقة المجردة، وغير خدمة لبنان نفسه، مادام الاصطياف هو المورد الوحيد للبنان!
هوامش
(1) السير: قرية لبنانية سياحية في قضاء الضنية، التابع لمحافظة شمال لبنان، تقع على علو 900 إلى 1150 متراً عن سطح البحر، وتبعد 28 كلم عن طرابلس.
(2) سعيد العاص: ثائر سوري من مواليد حماه عام 1889، تخرج من الكلية الحربية في اسطنبول عام 1970، والتحق بثورة إبراهيم هنانو، ثم بالثورة السورية الكبرى في جبل العرب وغوطة دمشق عام 1925 ثم التحق بثورة عام 1936 في فلسطين وقاتل مع عبد القادر الحسيني واستشهد هناك. (العربي القديم)
مجلة (العرفان) مجلد (16) عدد (3) تشرين الأول/ أكتوبر 1928
_________________________________________
من مقالات العدد الرابع من صحيفة (العربي القديم) تشرين الأول/ أكتوبر 2023