تلاميذ غزة لنزار قباني: نبوءة لانتفاضات قادمة
بقلم: محمد طه العثمان
كثيرة هي القصائد التي حملت معها نبوءات للمستقبل، وكثير من الشعر شجّر الروح، حين حاكى الواقع الذي تعيشها في شتى العصور، فكيف إن كان هذا الشعر لصيق قضية عادلة خذلها كل العالم.
قصيدة “يا تلاميذ غزة” التي قالها نزار قباني في الانتفاضة الأولى، ولأن غزة زمن الانتفاضة الأولى هي غزة هذه الأيام، مع جرعة عزة أكبر، ووحشية عدو أكبر، وتخاذل إنساني أكبر، فحريّ بنا أن نتعلم الدروس من غزة، وأهالي غزة الأباة الصامدين، كيف صنعوا شيئاً من لا شيء، بالعزم واليقين قالوا لأكبر قوة، وأعتى جيش غاشم: لا.
إن قصيدة نزار قيلت في عام 1988، حيث تتحدث عن مقاومة الأطفال الفلسطينيين، لقوات الاحتلال الإسرائيلي المسلحين بأحدث الأجهزة والدبابات، خلال الانتفاضة الأولى للأقصى، في المقابل كان الغزّاويون عزلاً من الأسلحة، ما عدا الحجارة التي جابهوا بها جنود الاحتلال.
لذلك المتابع قد يجد الفوارق ضئيلة، بين ذلك الزمن واليوم، ضئيلة حتى يتخيل سامع هذه القصيد أنها قيلت يوم أمس. لكن في جانب آخر هناك فوارق شاسعة، فإن ألقينا نظرة إلى المحيط العروبي، سنرى التشتت زاد عن أمس، والخنوع تجذّر في النفوس، والتسلط قتل كل نفس أبية، سنرى هزيمة كل عربي منهم، والشموخ والمقاومة لدى أهل غزة كما عُهدت.
في القصيدة، فيما تتلخص مقاربات كثيرة زمنياً، فنزار ومنذ البيت الأول اعترف بهزيمة العرب، حين جسد نفسه قائلاً، ومخاطباً الآخر “الغزّاوي” فيقول له: علِّمونا بعض ما عندكم فنحن نسينا. لا تبالوا بإذاعاتنا، ولا تسمعونا…. إلخ. في ما سبق صكّ اعتراف بهزيمتنا، مثلما الآن نريد صكّ تعريف بعجزنا، والانسحاق الذي وصلنا إليه، حيث نقف أمام بطولة، وصمود هؤلاء التلاميذ الجدد، ونحن بلا حيلة، حتى من الكلمة. كذلك قدّم نزار ملحمية تخلد بطولات أطفال الحجارة. ملحمية عابرة للزمن فإن قارنا هذه البطولات بزمن الخنوع “اليوم” سنجدها قابلة بكل ما فيها، لأن تكون هنا بين يدينا، وعلى مسامعنا، وتشير إلى عجزنا.
إن أطفال الحجارة بهروا العالم، وأثبتوا للجميع أن المقاومة لن تموت، حتى وإن لم يبقَ إلا الحجارة، مقابل الدبابة، والطائرة والرشاش، بينما اليوم يعود الغزّاويون لإبهارنا مرة أخرى بالصبر، والوقوف أمام أعتى آلة عسكرية، وهم عراة إلا من الكرامة والعزة.
ومثلما كانت القصيدة نبوءة لانتفاضات قادمة، يطرح فيها نزار الأمل بزوال الكيان في أكثر من موضع، متأكداً ومؤكداً أن دولة الاحتلال ليست سوى وهم، سيزول عاجلاً، أم آجلاً، عدا عن أن نزاراً في معظم قصيدته لم يستعض عن وصف صمود الغزّاويين بوصف مجازر الاحتلال بحقهم، ربما رأى في ذلك هوانه.
ولابد من الاعتراف أخيراً أن أسيادنا، وأسياد الأدب العربي في هذه المرحلة هم أطفال الحجارة، فهم الذين بعثروا أوراقنا، ودلقوا الحبر على ثيابنا، وانتهكوا عذرية نصوصنا القديمة، و طردونا من وراء مكاتبنا مكيفة الهواء، ثم لابد لنا من الاعتراف، والاعتراف موجع أن أطفال الحجارة (بهدلونا).. نحن الكتاب العرب الذين كنا نتصور أنفسنا آلهة تمشي على الورق، وملوكاً لا تغيب الشمس عن قصائدهم، نحن لسنا في الحقيقة، أكثر من ملوك من ورق، وقصائدهم من ورق.
***
الغاضبون / نزار قباني
يا تلاميذَ غزةٍ علمونا
بعضَ ما عندكم فنحنُ نسينا
علمونا بأن نكون رجالاً
فلدينا الرجال صاروا عجينا
علمونا كيف الحجارة تغدو
بين أيدي الأطفالِ ماساً ثمينا
كيف تغدو درّاجةُ الطفلِ لُغماً
وشريطُ الحريرِ يغدو كمينا
كيف مصّاصةُ الحليبِ – إذا ما اعتقلوها –
تحولت سكينا
يا تلاميذ غزة
لا تبالوا بإذاعاتنا
ولا تسمعونا
إضربوا إضربوا
بكل قواكم
واحزموا أمركم ولا تسألونا
نحن أهل الحساب
والجمع والطرح
فخوضوا حروبكم واتركونا
إننا الهاربون من خدمه الجيش فهاتوا حبالكم واشنقونا
نحن موتى لا يملكون ضريحا ويتامى لا يملكون عيونا
قد لزمنا جحورنا وطلبنا منكم أن تقاتلوا التنينا
قد صغرنا أمامكم ألف قرن
وكبرتم خلال شهر قرونا
يا تلاميذ غزة
لا تعودوا لكتاباتنا ولا تقراونا
نحن آباؤكم فلا تشبهونا
نحن أصنامكم فلا تعبدونا
نتعاطى القات السياسي
والقمع ونبني مقابرا وسجونا
حررونا من عقدة الخوف فينا
واطردوا من رؤوسنا الأفيونا
علمونا فن التشبث بالأرض
ولا تتركوا المسيح حزينا
***
يا أحباءنا الصغار سلاماً
جعل الله يومكم ياسمينا
من شقوق الأرض طلعتم
وزرعتم جراحنا نسرينا
هذه ثورة الدفاتر والحبر
فكونوا على الشفاه لُحونا
أمطرونا بطولة وشموخا
واغسلونا من قبحنا اغسلونا
لا تخافوا موسى
ولا سِحرَ موسى
واستعدوا لتقطفوا الزيتونا
إنَّ هذا العصرَ اليهوديَّ وهمٌ
سوف ينهارُ لو مَلَكنا اليقينا
يا مجانينَ غزة ألف أهلاً
بالمجانين إنْ هُم حررونا
إنّ عصر العقل السياسي ولّى
من زمان فعلمونا الجنونا
من ديوان (ثلاثية أطفال الحجارة) 1988
_________________________________________
من مقالات العدد الخامس من صحيفة (العربي القديم) تشرين الثاني/ نوفمبر 2023