السلطة والمعرفة والجسد: مقاربة فوكو المتجددة للسلطة
أشكال السلطة تتغير وتتكيف مع الظروف التاريخية والاجتماعية
بقلم محمد صبّاح * – العربي القديم
لا يُقدم ميشيل فوكو السلطة على أنها تجسيدٌ للعقد الاجتماعي كما لدى هوبز، لوك، وروسو، ولا محتكرة في الدولة كما عند ماركس، ولا مختزلة في البنية الأيديولوجية الفوقية كما في فكر غرامشي، ولا بأجهزتها القمعية كما يراها ألتوسير، ولا تعبيرًا عن حالة التوافق والتواصل كما يراها هابرماس، ولا تجسيدًا للعدالة كما عند رولز. إنما السلطة، وفقاً لفوكو، هي وضعية معقدة من التداخلات والتشابكات، تعمل في استراتيجية إنتاجية حيوية متدفقة باستمرار، من خلال جملة من الإجراءات العملية التي تؤدي إلى صعوبة تعيين مكان وجود جهاز السلطة.
السلطة والمعرفة: التداخل الجوهري
يبدأ فوكو بتحليل العلاقة بين السلطة والمعرفة، حيث يرى أن السلطة لا تتجلى فقط من خلال العنف أو القهر المباشر، بل تتجسد من خلال ما يسمى بـ «السلطة المعرفية». المعرفة، بالنسبة لفوكو، ليست محايدة أو منفصلة عن السلطة، بل هي مشروطة بالسلطة. وبالتالي، تصبح المعرفة أداة لتوزيع السلطة، وتشكيل الأنظمة المعرفية التي تحدد ما هو صحيح وما هو خاطئ.
تتسع هذه المقاربة ليشمل فوكو من خلالها فكرة أن السلطة ليست مجرد قوة تفرض على الأفراد، بل هي شيء يتوزع عبر الأنساق المعرفية والثقافية، ويتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية. كما يقول فوكو في أحد مقولاته الشهيرة: «السلطة ليست شيئًا يمتلكه أحد، بل هي شبكة من العلاقات»، بهذه الطريقة، تكتسب السلطة طابعاً معقداً متعدد الأبعاد يتجاوز التفسير التقليدي لها كظاهرة مرادفة للقمع.
السلطة والتاريخ: التغيير عبر الزمن
يركز فوكو في مقاربته على التاريخ بوصفه عاملًا حاسماً في فهم تطور أشكال السلطة. هو لا يعتقد أن السلطة قد نشأت مرة واحدة في لحظة معينة، بل يرى أن أشكال السلطة تتغير وتتكيف مع الظروف التاريخية والاجتماعية. إذ يقول: «السلطة تنشأ وتنتقل وتتغير. ليست ثابتة ولا منغلقة على نفسها».
بالتالي، يصبح تحليل السلطة في سياق فوكو ضرورة لفهم تحولاتها المستمرة، وهو ما يضع فوكو في مواجهة مع العديد من المفاهيم التقليدية للسلطة، حيث يربط السلطة ليس فقط بالقوانين والنظم السياسية، بل حتى بنظريات المعرفة والجسد.
واقعة تاريخية تعكس السلطة والتاريخ وفقاً لفوكو
في القرن السابع عشر، نشأت في فرنسا فترة تعبير عن شكل جديد من السلطة تحت حكم الملك لويس الرابع عشر، المعروف بـ (الملك الشمس). كانت هذه الفترة تمثل تحولاً كبيراً في آلية حكم السلطة في أوروبا. فقد قام لويس الرابع عشر بتوسيع سلطته بطرق غير تقليدية، إذ أصبح المركز السياسي في قصر فرساي رمزاً للسلطة المطلقة، حيث جمع بين السلطة السياسية والرمزية والثقافية في مكان واحد. في هذا السياق، لا تقتصر السلطة على هيكل هرمي تقليدي أو على سيطرة مباشرة من الحاكم فقط، بل كانت محكومة بشبكة من العلاقات التي تضمنت النبلاء، والإدارة، والثقافة، بل حتى طريقة الحياة اليومية.
وبالنظر إلى مقولة فوكو «السلطة تنشأ وتنتقل وتتغير»، فإن هذه الواقعة تمثل تحولاً في كيفية توزيع السلطة، حيث لم تعد السلطة محصورة في البنية التقليدية السائدة، بل توسعت لتشمل شبكة من القوى والمعرفة والسيطرة التي تمارسها السلطة الملكية على حياة الناس ومؤسساتهم، بما في ذلك جوانب من حياتهم الخاصة.
السلطة والجسد: الانضباط والمراقبة
أحد المحاور الأساسية في نظرية فوكو هو تحليل العلاقة بين السلطة والجسد. في كتابه «المراقبة والمعاقبة»، يناقش فوكو كيف تتحول السلطة في المجتمعات الحديثة إلى آليات دقيقة لضبط الأفراد من خلال المراقبة المستمرة. فالجسد، وفقًا لفوكو، هو مجال رئيسي للسلطة الحديثة، إذ لا يتم فقط قمع الجسد، بل تنظيمه وإعادة تشكيله. كما يلفت فوكو النظر إلى أن الأنظمة الحديثة تحاول فرض نظام من الانضباط على الأفراد، بحيث يتحول الجسد إلى كائن خاضع لسلطة داخلية، لا تحتاج إلى القسر المباشر.
إن التحكم بالجسد وتحقيق الانضباط عليه يعكس كيف أن السلطة لا تعمل فقط من خلال الإجراءات القسرية، بل من خلال تنظيم كل التفاصيل الصغيرة التي تكوّن الحياة اليومية، ليصير الإنسان في النهاية «ذاتاً منضبطة» أو خاضعة للرقابة الذاتية.
السلطة والجسد: مركز الاهتمام الفوكوي
إن أهمية فوكو تتحدد في أنه أعاد الجسد مرّة أخرى إلى صدارة السؤال، بعد أن أزاحه «ديكارت» منذ القرن السابع عشر خارج اهتمام العلوم الإنسانية والفلسفة. يرى فوكو الجسد مفعولاً به، ومنسحقاً تاريخياً وأخلاقياً وسياسياً، وممثلاً للوحةِ التدوين، فكل الممارسات التاريخية مُدونة عليه، وهو عُرضَة لتقنياتِ السلطة وخاضعاً لها. لقد كان فوكو مُنشغلاً بفهم كيفية دخول الجسد إلى الخطاب السياسي كتمثيل للسلطة، وكيف تُمارس السلطة على الجسد في المؤسسات المختلفة كـ
إنَّ أهمية الجسد لدى فوكو تصل لدرجةِ أنه يصف أعماله الفكرية بأنها تُشكل «تاريخ أجساد» وترصد وتفحص الطريقة التي يتم من خلالها تشغيل الأجساد مادياً وحيوياً. يقترح فوكو بأن الجسد يُحفّز السلطة على الاستثمارات فيه فيقول: «الحديث عن الخطاب يُنتج الحديث عن الجسد الذي يقيّده ويعتقله ويطارده بوصفهِ وطناً، فالجسد مجال إنتاج النظام والانتظام، ووطن مُمارسة السلطة سلطاتها عبر (تكنولوجيا لغوية الخطاب). يمكننا القول: إنَّ السلطة تكتب نصها بالخطاب على صحيفة الجسد » .
السلطة والمقاومة: الفكرة المتجددة
على الرغم من التركيز الكبير لفوكو على كيف تشتغل السلطة وتنتشر، إلا أنه لا يغفل جانب المقاومة. يرى فوكو أن أي شبكة سلطة تترافق مع إمكانية المقاومة، بل إن السلطة والمقاومة في نظره هما وجهان لعملة واحدة. في هذا الصدد، يبين فوكو أن « حيثما توجد السلطة، توجد المقاومة، ولكن لا توجد مقاومة واحدة، بل أشكال متعددة من المقاومة » .
وبذلك، لا يرى فوكو المقاومة كحركة معاكسة للسلطة، بل كممارسة مستمرة تتواجد في أطر متعددة، داخلية كانت أم خارجية. المقاومة بالنسبة له ليست مجرد رد فعل على القهر، بل هي جزء لا يتجزأ من العلاقات التي تكون السلطة من خلالها.
إذا كانت السلطة كما يرى فوكو ليست ثابتة أو مغلقة على نفسها، بل شبكة حية ومتغيرة تتوزع عبر العلاقات والمعرفة والثقافة والجسد، فكيف يمكننا اليوم أن نعيد النظر في مفاهيمنا التقليدية حول السلطة؟ هل هي مجرد هياكل قهرية تسعى إلى السيطرة، أم هي شبكة معقدة من القوى التي تحدد معايير الهويات والتفاعلات الإنسانية؟ كيف يمكننا أن نفهم مقاومة السلطة في هذا السياق؟ هل هي مجرد رد فعل على القهر، أم هي شكل من أشكال الحرية التي تنبثق من تفاعلات مستمرة مع آليات السلطة؟
فإذا كانت السلطة تعمل من خلال فوكو كإستراتيجية إنتاجية مستمرة، فهل يصبح الإنسان في النهاية مجرد نتاج لهذه الشبكة التي لا تنتهي؟ هل من الممكن أن تكون هذه الشبكة من العلاقات المعرفية والسلطوية هي ما يحدد مصير الفرد في مجتمعاتنا المعاصرة؟ وإذا كان الجسد هو مركز عمل السلطة الحديثة، فهل يمكن للإنسان أن يمتلك حقه في مقاومة هذا الانضباط الذي يطال كل تفاصيل وجوده؟
الخاتمة: التساؤلات الفلسفية حول السلطة
هل من الممكن أن نعيد تصور المجتمع على أنه فضاء حر من القيود التي تفرضها السلطة؟ أم أننا، كأفراد وكمجتمعات، محكومون منذ البداية بأن نعيش في شبكة من القوى التي تحدد وجودنا؟ وإذا كانت السلطة لا تقتصر على أفعال القهر المباشرة، بل تشمل أيضًا المعرفة واللغة والجسد، فهل يعني ذلك أن كل فعل معرفي، وكل كلمة نلفظها، وكل حركة نمارسها، هي في ذاتها ساحة لصراع سلطوي؟
وفي النهاية، كيف يمكننا أن نفهم وجودنا في هذا النظام المعقد من السلطة والمقاومة؟ هل نحن مجرد ضحايا لهذا النظام، أم أننا، في صراعنا المستمر مع السلطة، قادرون على خلق فضاءات جديدة للحرية والتغيير؟
إن فكر فوكو حول السلطة يدعونا إلى التفكير في هذه الأسئلة، بل ويحثنا على أن نعيد بناء مفاهيمنا حول القوة والحرية والهويات في عالم لم يعد واضحًا فيه أي حدود بين السلطة والمقاومة، بين ما هو فردي وما هو جماعي. إنه فكر يفتح أمامنا أفقًا جديداً لفهم تجاربنا اليومية، ورؤيتنا للمجتمعات التي نعيش فيها، وطريقة تفاعلنا مع القوى التي تحدد مصيرنا.
___________________________________
*كاتب فلسطيني