حين تسمو الحرية بفارس الحلو وواحة الراهب وينحط عشق الطغاة ببسام كوسا
محمد منصور – العربي القديم:
لم يفاجئني بسام كوسا في كثير أو قليل في حديثه الأخير المطروش على السوشيال ميديا، كانطراش صفعة عمرو دياب لمعجبه الصعيدي الذي قرر أن يرفع قضية ضد “الهضبة” مطالبا بحقه وكرامته… بخلاف بسام كوسا الذي فرط بالحقوق وبالكرامة رغم كم الصفعات التي تلقاها!
وبسام الذي ظهر عشية موسم رمضان التلفزيوني مع بشار الكيماوي، قاتل أطفال الغوطة ودوما وخان شيخون بغاز السارين، ومشرد السوريين ومُهدم بيوتهم ومدنهم وقراهم بالسكود والمدفعية والبراميل، لا يضيف جديداً في ظهوره الأخير، وقد تبارك – قبلا – بالتمسح بقاتل والتقاط الصور معه، مثل كل عبيد الطغاة الصغار الذين سيكون مصيرهم مزابل التاريخ انتصرت الثورة في المدى المنظور أو لم تنتصر!
نعم سيأتي يوم يا أستاذ بسام سيزول كل هذا الوسخ، وسينظر أبناء جيل ينعم بالحرية ويعرف معناها، لأنه دفع ثمنها غاليا هو وآباؤه، سينظر إلى أعمالك وفنك الرفيع نظرة الاحتقار، ويقولون: ما لهذا الممثل المقنّع (بتشديد النون)، الذي عثرنا له على العديد من المقابلات التي كان يتحدث فيها عن أزمة الأخلاق ويصف مهنته بالمهنة الحضارية والعبقرية، يقف في الموقف الخطأ من العبقرية والحضارة والأخلاق، مع قاتل كان يحكم هو و16 فرع أمن هذه البلاد بالحديد والنار… وصار اليوم ذكرى سوداء من ماض أليم نقرأ عنه في كتب التاريخ وعن عائلة الأسد التي كانت!
ربما لن يسعف خيال بسام كوسا الخصب في تقمص الشخصيات وبناء الكاركترات أن يتصور المشهد على هذا النحو، فهو مشغول الآن بإقناعنا بالمؤامرة الكونية… نعم المؤامرة الكونية ذاتها، التي جعلته يتحدث عن الوضع في سوريا ما قبل الثورة، أو “الأزمة” كما يحب أن يسميها على هذا النحو:
” في عام 2010 صار عنا اكتفاء ذاتي غذائي وكنا نصدر قمح. كانت أكثر من 95 بالمئة من أدويتنا تصنع داخل سوريا وكنا نصدر أدوية للخارج. كان التعليم مستواه عالٍ والانسان كان مستوراً ومرتاح نفسياً… لكن في 2010 اكتشفنا بأنه ممنوع لأي دولة من دول الطوق المحيطة بإسرائيل أن تصل لمرحلة من هذا التكامل والاكتفاء النسبي.. وهذا بسبب ما أسميه أنا لعنة الجغرافيا”
يا للرب… ما هذه العبقرية… ما هذا التحليل الألمعي الفذ؟! ما هذه الحجج المفحمة التي هي أبلغ من ألف كلمة وكلمة؟!
لقد أذهلتنا وأسقطت كل حججنا الواهية التي جعلتنا نظن أنها ثورة… فإذا هي فعلا مؤامرة ضد دول الطوق المحيطة بإسرائيل كي لا تتكامل وتكتفي…
سنصدق يا أستاذ بسام أنه كان عندنا اكتفاء قمح للبشر، واكتفاء شعير وفصة لعلف الحيوانات أيضا… سنصدق أنه كنا نصنع كل أدويتنا ونصدر للخارج… وسنصدق أن التعليم كان مستواه عال العال كما تقول، بدليل تصنيف جامعاتنا عالميا، وبدليل المهانة التي كان يتلقاها المعلم المخلص لرسالته التربوية ماديا ومعنويا في المدارس الحكومية من الدولة ومن أولاد المسؤولين… سنصدق كل هذا وأكثر، لكن هل هذا يُغني عن أن سجون البلاد ملأى بالمعتقلين وفيهم نساء وأطفال، ومحكومون قضوا مدد أحكامهم التي صدرت من فم القاضي في محاكمة لم تتجاوز نصف دقيقة، ومع ذلك دولة الاكتفاء الذاتي بالقمح لم تفرج عنهم… هل هذا يغني أنه قبل 2010 كان الفارس عدنان قصار مازال معتقلا في سجون النظام منذ قرابة العشرين عاماً، ليس لأنه يريد حرية، ولا لأنه يريد إسقاط النظام، ولا لأنه يحلم بأن يترشح للرئاسة ضد حافظ أو باسل أو أي من أشقائه لا سمح الله… فقط لأن خيله سبق خيل ابن السيد الرئيس بمسابقة فروسية؟
هل كان هذا يغني أن السوريين على مدى عقود ظلوا ممنوعين من انتخاب رئيس مثلهم مثل بقية خلق الله، وأن هذا الرئيس أتى وارثا لأبيه في نظام جمهوري يفترض ألا يرث الابن أباه، وعدّل الدستور من أجله ليناسب سنه المحددة تماماً… هل هذا يغني أن الشعب مهان ومقموع ومذلول، وأن أي شخص ممكن أن يعتقل بسبب كلمة، أو بسبب تقرير كيدي… وأن أي كاتب ممكن أن يمنع من الكتابة دون أن يجد قضاء يلجأ إليه، وأن كاتبا كميشيل كيلو، ليس إسلاميا وليس ملتحياً، وليس من الجماعة الذين تراهم في أحلامك وهم يملؤون سريرك بالدماء، اعتقل لأنه كتب مقالا عنوانه “نعوات سورية” وقضى أربع سنوات في السجن بسبب كتابة مقال فقط، وكان اعتقل من قبل في نهاية السبعينات لأنه ناقش الفساد والتغول الأمني في اجتماع اتحاد الكتاب العرب الشهير؟! وأن رجلا عجوزا اسمه رياض الترك قضى 18 سنة في زنزانة إنفرادية دون محاكمة… وعندما مات “أبوك القائد” يا أستاذ بسام، قال على قناة الجزيرة (مات الديكتاتور) فأعيد إلى السجن وكان في السبعين من العمر… من أجل كلمة عن رجل سجنه 18 سنة دون أي جرم سوى جرم العمل السياسي السلمي غير المسلّح!
ماذا نتذكر وماذا ننسى يا أستاذ بسام، باسمك الذي بات كبيرا في النفاق، وكبيرا في ترسيخ قيم العبودية، وكبيرا في التمسح بالطغاة… نعم بت كبيراً في هذا المجالات فقط، وما نقدك للوسط الفني، وحديثك عن الممثلات اللواتي دخلن المهنة لاتخاذها ستارا للدعارة، واللواتي بتن قادرات على إبعادك من مسلسل أو منع عرضه لأنه اسمك يسبق اسم إحداهن، سوى محاولة للتمسك بشيء من الغضب الذي تنتجه كرامة البشر في الأزمات عادة.. حين لا يستيطعون أن يرفعوا سقف الحديث بأعلى من سقف البسطار العسكري والأمني الذي كان يعيشون تحته، في دولة الاكتفاء الذاتي بالقمح والأدوية!
أما انفجارك في وجه من كتب لك حين تضامنت مع غزة “الآن تتكلم عن غزة.. وأين كنت وقت إدلب.. وأين كنت وقت كذا” والذي اكتشفت أنه يعيش في مونتريال أو ستوكهولم، وأنه يريد أن يقاتل ويناضل بالنواضير… النواضير (نعم بالضاد لا بالظاء) التي تذكرني بصفقة النواضير الليلية التي باعها النظام للعراق قبل سقوط صدام حسين، فهذا الانفجار ضد ذلك الغيفارا المونتريالي والستكولهومي، مفهوم وواضح… إنه تعبير عن أزمتك الداخلية التي يشيعها ضمير ميت، مع رجل متخبط بلغ سن اليأس، لا يستطيع أن يرى ولا أن يتذكر أنّ غيفارا “النواضير” لم يذهب سائحا إلى مونتريال، ولا باحثاً نفسياً لتقصي تاريخ “عقدة ستوكهولم” في بلد المنشأ، بل ذهب هارباً من براميل الأسد الذي كنت تلتقيه عشيه الموسم الرمضاني، وتحدثه باسما مبتهجاً عن شؤون الدراما وعن الآليات التي يمكن النهوض فيها بالفن وبالمهنة الحضارية العبقرية التي تمتهنها بنجاح.. وربما رأى الموت بعينيه قبل أن يصل إلى منفاه المونتريالي في “بالم” مطاطي، كاد أن يغرق به وبأطفاله، أو مع مهرب خلا به في غابات اليونان فسامه حرس الحدود سوء العذاب وجردوه من ملابسه قبل أن يلقوه في النهر عارياً، كي يعود من حيث أتى!
ولأن الحسن يظهر حسنه الضد، لا أستطيع أن أمنع نفسي من أن أتأمل، في مستوى بعيد جداً عن مستوى حوارك الموصوف، حوار الفنان فارس الحلو في البودكاست الذي أجرته معه ألمى عنتبلى، أو حوار الفنانة واحة الراهب في البودكاست الذي أجرته معها السيدة هزار الحرك… هاهنا يأخذنا فارس في رحلة الشفافية والصدق، يبدو هادئا مطمئنا إلى أنه لا يوجد لديه ما يخشى الحديث عنه أو الخوض فيه… ترتسم على وجهه ابتسامته العذبة الساخرة وهو يكشف كواليس الجرأة المصنوعة في المسلسلات الدرامية، وبتلقائية وببساطة يتحدث عن إسرائيل التي تحكم سوريا عبر آل الأسد التي جاءت وزيرة خارجية العدو الإمبريالي الأمريكي لتبارك توريث بشار للحكم بعد موت أبيه… فيثير كلامه احترام شرائح واسعة من السوريين… وهاهنا أيضاً تحضر السيدة واحة الراهب، مشرقة، مفعمة بالألق والإيمان بثورة شعبها التي اختارت أن تنحاز إليها وهي تقول “مافي شي بيوقف بوجه الشعوب لما بتتحرر”، كما تملي عليها رسالة الفن الحقيقي، وجوهر الإنسان الحقيقي الذي تنتمي إليه، وتدين المجازر التي ارتكبت بحقه… فتسمو واحة الراهب وفارس الحلو بالحرية والشجاعة… وتزداد يا أستاذ بسام هل أقول: “وضاعة؟” وأنت تدافع عن القتلة والمجرمين وتنتمي إليهم؟!
نعم سأقولها… وستصل إليك… فليسامحني الله!
يسلم تمّك
قالو (للكوسا) كل ماحطّيناك ع الرف .. منلاقيك بين الصرامي.