دلالات وقضايا | طبول الحرب أم مهارشة ديوك؟
يكتبها: د. مهنا بلال الرشيد
يعيش سكَّان الشَّرق الأوسط في منطقة ورثت شعوبها عادات عريقة من أجدادها في حضارات قديمة تضرب جذورها في أعماق التَّاريخ؛ فالصَّيد بالصُّقور والشَّواهين وسباق الخيول والنُّوق من العادات العربيَّة الأصيلة، الَّتي افتخر بها العرب المعاصرون بوصفها إرثًا حفظوه عن أجدادهم القدماء، يربِّي النُّفوس على مكارم الأخلاق كالشَّجاعة والفروسيَّة والتَّرفُّع والأنفة والإباء والإيثار؛ ومن أجل السَّبق بين الخيول العربيَّة الأصيلة المتنافسة وبسبب المبالغة في إكِرام عصافير النُّوق المدلَّلة دُقُّت طبول الحرب، وطحنت رحاها أكرم الفرسان في كثير من القبائل العربيَّة.
مسرح الحرب أو الجريمة
ويحفظ لنا الشِّعر العربيُّ القديم كثيرًا من قصص الحروب بسبب دلال النُّوق وسباق الخيول؛ كحرب البسوس وحرب داحس والغبراء، ولأنَّ البلدان العربيَّة كانت مسرح هذه الحروب كانت نتائجها مدمِّرة على الشُّعوب العربيَّة ذاتها؛ لأنَّ الحاضرين في مسرح الحرب أو الجريمة غالبًا ما يدفعون ثمن فاتورتها الباهظة، حتَّى وإن لم يكن لهم يد فيها‘ أو إن لم يكن لم فيها ناقة أو جملًا على الإطلاق؛ ولذلك قال المثل الشَّعبيُّ العربيُّ المعاصر: (المُحَجِّز ياكل ثلثيّ القتلة)؛ أي يدفع ثمنًا من فاتورة حرب لمجرَّد وجوده في مسرحها، وقد وصف الشِّاعر العربيُّ القديم عمرو بن كلثوم التَّغلبيُّ فتكَ أمثال هذه الحروب بالقبائل العربيَّة؛ فقال في معلَّقته الشَّهيرة:
متى ننقل إلى قوم رحانا يكونوا في اللِّقاء لها طحينا
تكون ثِفالها شرقيَّ نجدٍ ولهوتُها قُضاعة أجميعنا
لم يقف الأمر عند مقتل أشجع الفرسان، الَّذين طحنتهم الحرب، أو عركتهم عَرْك الرَّحى، بل إنَّ الأثر النَّفسيَّ لهذه الحروب غالبًا ما يمتدُّ إلى ما بعد انتهائها لعشرات أو مئات من السِّنين القادمة؛ كرغبة السُّوريِّين بالخلاص من المجرم بشَّار الأسد ومعاونيه الَّذينين استعدُّوا للذَّهاب للدِّفاع عنهم بعد أن يرسلوا بدلَ المجرم مجرمين، وبدل الألف ألفين، ومن الواضح أنَّ مساندة الظَّالم المجرم أبرز سبب لانتشار العداوة والبغضاء بين أبناء العمومة أو الخؤولة المنحدرين من رحمٍ واحدة إلى حدٍّ لم تعد تُجدي أفكار المتنوِّرين في تقليم أظفار الحاقدين بعدما فتكت حروب المجريمن وأعوانهم بأخوتهم وأبنائهم؛ فقال معن بن أوس المزنيُّ مصوِّرًا آثار الحروب في إشعال نيران الحقد بين الأقارب:
وذي رحمٍ قلَّمتُ أظفار ضَغنِه بحلميَ عنه وهو ليس له حلمُ
يحاول رغمي لا يحاول غيره وكالموتِ عندي أن يُعرِّبَه الرَّغم
فإن أعفُ عنه أغضُّ عينًا على قذًى وليس له بالصَّفح عن ذنبه عِلمُ
وإن أنتصر منه أكن مثل رائشِ سهامَ عدوٍّ يُستهاضُ بها العظم
مهارشة الدِّيكة لتقطيع الوقت السِّياسيِّ وتصدير الأزمات
لخَّص المثل العربيُّ القائل: (أسمع جعجعة ولا أرى طحنًا) قصَّة تمثيليَّة الحرب أو أفلام (الأكشن) الدَّائرة بين إيران وأذنابها من جانب وإسرائيل من جانب آخر؛ فكلُّ طرف من هذين القطبين يُجعجع برغبته بالخلاص من الطَّرف المجرم الآخر، لكنَّهما يحرصان دائمًا على أن تكون البلاد العربيَّة حلبة المهارشة أو الصِّراع من خلال توكيل الأذناب في إدارة بعض تفاصيله، فقد كان مقاومو إيران أو أذنابها يأخذون الإذن من دونالد ترامب لقصف أطراف قاعدة عين الأسد الأمريكيَّة في بغداد مرَّة، ويضربون بعض مفرقعات فادي والكاتيوشا جنوب لبنان مرَّة أخرى؛ حتَّى ضاق بنيامين نتياهو ذرعًا بفصول هذه المسرحيَّة السَّمجة، الَّتي ملَّها النَّاخب في إسرائيل مع أنَّ معظم ضحاياها من العرب؛ لذلك قرَّر نتنياهو قطع الأذناب قبيل الانتخابات الأمريكيَّة؛ فتخلَّص من قادة محور المقاومة الَّذين تديرهم إيران؛ فقطع أذنابها بقتله: حسن نصر وهاشم صفيَّ الدِّين وصالح العاروريِّ مع أنَّهم ذكَّروه بقول جرير:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعًا أبشر بطول سلامةٍ يا مربعُ!
ونسي نتنياهو أو تناسى وربَّما لم يكن يعرف بيت الشِّعر العربيِّ القائل:
لا تقطعنْ ذَنب الأفعى وترسلها إن كنتَ شهمًا أتبِع رأسَها الذَّنَبا
فقد قطع نتنياهو ذنب الأفعى الممتدَّ من العراق حتَّى اليمن، وترك رأسها السَّامَّ في طهران، وبرغم هذا لم يستطع استغباء المتابعين من الشُّعوب العربيَّة العارفين أنَّ الوَزَغة أو البِرص أو أبا بُريص يُضحِّي بذيله؛ ليسلم رأسه؛ ولذلك أراد ذرَّ الرَّماد في العيون بعد قَطعِ الأذناب؛ ولأنَّه لا يريد القضاء على رأس الأفعى لسبب أو لآخر راح يُنسِّق معها على طريقة: (داوِها بالَّتي كانت هي الدَّاءُ)، أو راح يقاومها مثلما قاومته، وقاومت غيره بالتَّمثيل دائمًا، وكما كان الأذناب يأخذون الإذنَ لقصفِ أطراف قاعدة عين الأسد في العراق أخذ نتنياهو الإذن لقصف بعض المناطق غير المهمَّة في إيران، وصار اللَّعب بينه وبين الإيرانيِّين على المكشوف وعلى رأي المثل القائل: (حُكَّ لي أَحكُّ لك)، وإن لخِّص هذا المثل قصَّة الجعجعة دون طحين، فإنَّه يذكِّرنا بمثل مهمٍّ آخر يقول: (أوَّل الرَّقص حنجلة)؛ فسُرعان ما ينتقل الجسد إلى الرَّقص الحامي بعد الحنجلة لخفيفة أو التَّمايل طربًا بعد لحظة من لحظات الفرح أو النَّشوة؛ وقد استطاع نتنياهو بالأمس القريب استدراج قادة حزب الله المجرمين إلى الحرب، وقام بتصفيتهم أو تصفية معظمهم عندما اصطادهم بطُعم أجهزة البيجر واللَّاسلكيِّ، وتورَّطوا بالحديث عن جبهة إسناد اكتفت بقصف العواميد وقتل العرب في مجدل شمس؛ وما هذا إلَّا لأنَّ الرَّقص الحامي يسفر عن نتائج ملموسة بخلاف نتائج التَّمثيليَّات غير المجدية، ويجلب المكاسب السِّياسيَّة الواضحة لنتياهو بعدما صار اللَّعب بينه وبين إيران وأذنابها مكشوفًا للجميع؛ لكنَّ نتنياهو بعدما قطع الأذناب راح يضرب في ريش إيران الخارجيِّ الَّذي تبدِّله الطُّيور عادة في أواخر الخريف وبدايات الشِّتاء مرَّة، وعند بداية الرَّبيع مرَّة أخرى، وهكذا جعجع نتنياهو ولإيرانيُّون بلا طحن، وقصفوا الرِّيش المستخلف أو المستبدل لعدم نفعه، وإن قطع نتنياهو الذَّنب، فقد قصرت أفعاله عن شهامة قطع الرَّأس، لكنَّ، ولأنَّ (أوَّل الرَّقص حنجلة) فالأمور مرشَّحة للتَّصاعد برغم تعاون الفرس مع سُكَّان يهوذا وإسرائيل منذ أيَّام قورش الفارسيِّ الكبير في القرن السَّادس قبل الميلاد، وبرغم حرص الطَّرفين على جعل المنطقة العربيَّة ساحة لحرب الأذناب مرَّة، وحلبة لمهارشة الدُّيوك مرَّة أخرى!
حرب طاحنة أم مهارشة ديوك؟
يرى بعض الباحثين أنَّ مهارشة الدُّيوك إرث سومريٌّ قديم، افتخروا به مثلما افتخر الإسبان بمصارعة الثِّيران، وقد انتقل هذا الإرث أو هذه العادة من العراق وبلاد الرَّافدين إلى الفيلبِّين وتايلاند، وأُقيمت حلبات المهارشة الدُّيوك داخل فرنسا في كثير من الأحيان، وقد دفع المولعون بهذه المهارشات مبالغ رمزيَّة للاستمتاع بحضورها، ولم يهدف أصحاب هذه الأنشطة إلى تحقيق مكاسب مادِّيَّة منها بقدر إمتاع المتابعين والقضاء على التَّشاؤم والملل عندهم، علاوة على افتخارهم بقوَّة ديوكهم، واتِّخاذها أو اتِّخاذ أجملها وأقواها رمزًا وطنيًّا لهم، وكذلك أدرك الحاضرون في معظم الأحيان أنَّ حضور مثل المهارشات ليس إلَّا نوعًا من أنواع التَّسلية وتقطيع وقت الفراغ وتمريره، كما يمرِّر المحتفلون بعضًّا من لحظات رأس السَّنة الجميلة بإطلاق المفرقعات، أو كما يتسلَّى الأذناب بقصف العواميد، لكنَّ حفلات المفرقعات ومهارشات الدِّيكة قد تتسبَّب في بعض من مراحل التَّاريخ الانتقاليَّة أو المفصليَّة بحروب حقيقيَّة ودامية، كما تسبَّبت ناقة البسوس بحرب دامية، وكما أشعلت السِّباق بين الفرسين: داحس والغبراء حربًا أخرى، لا سيَّما إن صار اللَّعب بين بعض المتسابقين على المكشوف؛ فاضطرَّ أحدهم لتحقيق بعض المكاسب على حساب زميله في السِّباق؛ فاحتجز فرسه، أو قصفَ عموده، أو قطع ذراعه، أو ذنب وزغته، ثمَّ خشي من الرَّأس الَّذي يقطر سمومه، وينشرها هنا وهناك!
بقي أن نشير إلى أنَّ هذه القراءة وتطوُّراتها نحو هذا المنحى أو ذاك ترتبط بشكل رئيسيٍّ بنتائج الانتخابات الأمريكيَّة، الَّتي يقف على أبوابها كثير من أصحاب الملفَّات في الشَّرق الأوسط، كملفِّ الرِّئاسة اللُّبنانيَّة ومستقبل الحكومة ومجلس النُّوَّاب هناك، بالإضافة إلى ملفِّ محاسبة المجرم بشَّار الأسد على جرائمه في سوريا، وجرائم الأسلحة الكيميائيَّة تحديدًا في خان شيخون وغوطة دمشق إن لم يقايض هذه المحاسبة بانبطاح أو تنازل جديد، وربَّما لم يعد يمتلك شيئًا مجديًا لمقايضته أو التَّنازل عنه في معركة مقاومته الانبطاحيَّة، بالإضافة إلى ارتباط بعض هذه الملفَّات ببعضها الآخر ارتباطًا وثيقًا كارتباط قطعات المشهد المقسَّم في لوحة من لوحات البازل إلى حدٍّ يؤثِّر ويتأثَّر فيه موقع كلِّ قطعة بموقع القطعة الأخرى، ويمكن بعض الأحيان استبدال قطعة بقطعة أو مقايضة قطعة بقطعة في هذا الزَّاوية أو تلك من زوايا المشهد الكبير.