التاريخ السوري

حين كانت الديمقراطية "تُطعم لحماً" أيام الانفصال

كنت طفلاً بالكاد يميز الألف عن العصا حين اكتشفت دون أن أمتلك مواهب كولومبوس أن الديمقراطية تُطعم لحماً أيام الانفصال عن مصر وإلقاء تحية الوداع على الجمهورية العربية المتحدة.

وأظن أن ذلك الاكتشاف كان أثناء الانتخابات الوحيدة التي أُجريت أيام حكومة مأمون الكزبري التي ضمت معظم الوجوه القديمة من الحزب الوطني، وما زلت أضحك في سري إلى اليوم كلما رأيت وسمعت النخب السورية المثقفة تثني على الديمقراطية السورية، وحرية الصحافة قبل الوحدة وأثناء الانفصال.

في تلك الانتخابات وصلت الصناديق إلى قريتنا، ونادى المنادي أن هبوا لتصوتوا من أجل وطن ديمقراطي، لكنْ سبقت ذلك المنادي إشاعات تقول إن سعر الصوت تم تحديده بخمس ليرات سورية، وهذا مبلغ كبير في ذلك الزمان يكفي لشراء ثلاثة كيلوات لحم غنم، أو كيلو ودجاجتين وسبع بيضات.

ويومها دفعنا أبي دفعاً ليذهب، ويصوت، ويستلم المقسوم، فذهب، واصحبني معه، وهناك “أمام دكان أبو رستم” شاهدت بعيني طاولتين على كل منهما حزم نقدية ووكيل لكل مرشح يدفع المال، ويأخذ تفويضاً بأن فلاناً قرر بإرادته الحرة أن يصوت لفلان، وغالباً كان المرشحان في ذلك الوقت من أسرة برمدا، أو عائلة الكيخيا، وهما الأسرتان اللتان تسيطران على معظم إقطاعيات المنطقة قبل قانون الإصلاح الزراعي.

ولا أعرف لمن ذهب صوت أبي في ذلك اليوم المجيد من تاريخ الديمقراطية السورية، لكني أذكر تماما رائحة الشواء التي عطرت الكون في تلك الأمسية، وجعلتني أسجل في ذاكرتي الطفولية الدرس الأول في حب تلك الديمقراطية التي تُطعم لحماً شهياً.

وبعد أن كبرنا وقرأنا عن تلك المرحلة اكتشفنا أن يوم الثامن والعشرين من أيلول سبتمبر لم يكن تراجيديا كما صوره العروبيون؛ فلم يكن فيه دم، ولا قصف ونسف، بل كان يصلح أن يكون مسرحية كوميدية، فكل الأطراف بما فيها جمال عبد الناصر وقادة الانقلاب غيرت مواقفها بين الساعة الرابعة صباحاً، والخامسة مساء عدة مرات ومن بين اثني عشر بياناً للانقلابيين أهمها البيان التاسع يمكن أن نقرأ تصاعداً درامياً قلقاً يعلو، وينخفض تبعاً لرغبة المتفاوضين على مستقبلنا الزاهي.

لقد أوشك الانفصاليون بما فيهم النحلاوي والكزبري قائد فرق الهجانة، أن يتراجعوا عن الانفصال حين استجاب عبد الناصر لبعض مطالبهم بل إن إذاعة دمشق نفسها التي كانت بيد الضباط الانفصاليين خلعت ثوبها الانفصالي منتصف النهار، وعادت لتبث على أنها إذاعة دمشق من الجمهورية العربية المتحدة.

وما إن حل المساء حتى اكتشف الانفصاليون من جديد في بيانهم التاسع أن عبد الناصر ديكتاتور، وطاغية وأنهم ماضون في مسيرة استعادة الديمقراطية السورية، وهكذا شحنوا المشير عبد الحكيم عامر مع ثلة من الضباط المصريين إلى القاهرة وتفرغوا للتعامل مع مئتي مظلي مصري هبطوا في اللاذقية لكنهم لم يستطيعوا وقف الانفصال، فقرر عبد الناصر لأسباب عاطفية وسياسية مفهومة أن يحتفظ بالاسم وبالفعل ظل اسم الجمهورية العربية المتحدة قائماً حتى ألغاه السادات بعد عام من وفاة عبد الناصر.

ومهما كانت ذكرياتنا عن الانفصال، وأيامه؛ فإن الحقيقة الباقية في قلوبنا وضمائرنا هي أن السوريين يحبون مصر، وأن المصريين بالفعل يحبوننا لكن العواطف وحدها لا تكفي لبناء الدول، ولا للحفاظ عليها، ففي أنظمة الحكم الاستبدادية لا رأي للشعوب، ولا صعوبة في تزييف إرادتها طالما أن الإعلام، والقرار بيد شخص واحد يستطيع أن يعمر البلاد، أو أن يدمرها حين تتعارض مصلحة الشعب مع مصلحة الحاكم، ومصلحة الطبقة المستفيدة من استبداده وفساده.

___________________________

من مقالات العدد الثالث من صحيفة (العربي القديم) الخاص بذكرى مرور 62 عاماً على الانفصال-  أيلول/ سبتمبر 2023

زر الذهاب إلى الأعلى