صنمية العبارات: عن التخفي وراء قوالب اللغة الباردة
حين تجد نفسك تمارس يومياً عقداً نفسياً صامتاً مع ذاتك؛ تضطر فيه إلى هضم كلماتٍ لا تستسيغها، وتجامل في مواقف تتطلب الصمت أو الصدق.

براء الجمعة * العربي القديم
أجدني في كل يوم يمر، أمام مفترق طرقٍ لغوي لا مفر منه، يثير في الوجدان قلقاً معرفياً متجدداً. كلماتٌ وعباراتٌ تتهادى على الألسنة كحبات مسبحةٍ مكرورة، وقد فقدت وهجها الدلالي وبهاءها الحقيقي من فرط التداول الآلي. إنها “عبارات المجاملة المستهلكة”؛ تلك التي نتبادلها فيما يشبه الطقوس اليومية، لا بدافعٍ روحي أو وجداني، بل بقشورها المهترئة وهياكلها الباردة.
هذه العبارات ليست مجرد كلمات عابرة، إنها تحوّلت إلى أقنعةٍ اجتماعية صُنعت بدقةٍ متناهية، نرتديها جميعاً لحماية دواخلنا من عري الحقيقة ووهج اللحظة. نقذف بعبارة “منوّر” على من لا يُنير علينا سوى حضوره الفيزيائي الباهت، ونتفوه بـ نقذف بـ “مُبدع/ة” كطابعٍ مطاطي يُلصَق على كل محاولة، فتُهدر بذلك القيمة للإبداع الحقيقي ويُسحق التميز تحت وطأة المجاملة الرخيصة، أو قُل، تحت وطأة “الرطانة الوجدانية“ التي تجعل التواصل فقيراً.
الاقتصاد الوجودي للكلمة ومسرحة المشاعر
السؤال الذي يستقر في الوجدان ليس سؤالاً عن فن الإتيكيت؛ إنه سؤالٌ جوهري: لماذا نمارس هذا التكيّف اللغوي المُتعب؟ لماذا نصنع هذه المسرحية الجماعية بتلك الدقة المتناهية؟
يمكن تحليل ذلك ضمن إطار الاقتصاد النفسي والاجتماعي. هذه العبارات الجاهزة هي “عملة اجتماعية مضمونة“، لا تخسر قيمتها في سوق العلاقات الهشة. إنها درعٌ واقٍ من مواجهة الحقيقة الشفيفة، ومن التحدي الذي يفرضه الصدق الوجداني. إنها توفيرٌ مذهل للطاقة النفسية والإدراكية؛ فاستدعاء عبارة جاهزة من ذاكرة الجمع اللغوية هو فعلٌ أسهل بكثير من صياغة استجابة مشاعرية أصيلة تليق بقدسية اللحظة وفرادتها.
هذا الانزياح نحو الجاهزية اللغوية هو شكلٌ من أشكال التكيف السطحي، نُبادل الجوهر بالسطح؛ نُبادل الجهد الذي يتطلبه التعاطف بكسلٍ معرفي مبرر. نحن نخشى أن نكون “غير مُسايرين” في الطقس الاجتماعي العام، فنقع في فخ “التهذيب المفرط” الذي يُجرّدنا من أصالة الانفعال. المجاملة هنا لا تُصبح جسراً للوصول، تُصبح حاجزاً مزخرفاً يمنع الاقتراب الحقيقي من حقيقة الآخر.
يُصبح هذا النمط اللغوي في أحيانٍ أخرى ضرورة للبقاء، بمثابة “صمامات أمان نفسية“ تنظم تدفق المشاعر وتمنع فيضانها في بيئةٍ مثقلة بالألم. بيد أن الخطر الأعظم لا يكمن في وجود هذه الصمامات، بل في تحوّلها إلى الأنبوب كله، وحينها نصبح مجتمعاً يتنفس عبر وسيط اصطناعي، ونتواصل ببروتوكولٍ لا يحمل في طياته أي إحساسٍ بالمسؤولية الوجدانية.
التكلف والإلغاء: أزمة النزاهة مع الذات
إنني أجدني، في أعماقي، أمارس يومياً عقداً نفسياً صامتاً مع ذاتي؛ أُضطر فيه إلى هضم كلماتٍ لا أستسيغها، وأُجامل في مواقف تتطلب الصمت أو الصدق.
أهضم “أحتسي قهوة الصباح” التي تحولت من متعة شخصية صادقة إلى شعارٍ تسويقي يُنشر على الملأ ليُعلن عن هويةٍ زائفة تسعى لإثبات وجودها على منصات الاستعراض الرقمية. تموت اللحظة بواقعيتها بمجرد تحولها إلى محتوى مرئي يُراد منه حصد الإعجاب، وينتقل بذلك التركيز من فعل “الاحتساء” إلى فعل “العرض المصطنع”.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد. أهضم عبارة “عدّل مزاجك” التي تحمل في طياتها إلغاءً فطرياً لتعقيد مشاعرنا الإنسانية. هذا الإلغاء هو تهميشٌ لخزانة التجربة البشرية؛ فالحزن ليس نقصاً في الإيجابية السطحية، بل هو دليلٌ على الشعور وصدق التجربة.
وكم هو مؤلم أن أهضم كلمة “زملاء”؛ تلك الكلمة التي تجمع تحت مظلتها الباردة من نشاركهم المساحة والوقت، لكننا لا نشاركهم القلب والهموم. إنها تقزيمٌ للعلاقة الإنسانية إلى مجرد “وظيفة وآلة” لا تتعدى حاجز المكتب. لذلك، أميل إلى الاستقلال اللغوي، إلى التفرّد الوجداني؛ إلى أن أُطلق على من أشاركهم رحلة الحياة والتحديات “أحباء أو شركاء” مثلاً، ففي هاتين الكلمتين اعترافٌ ضمني بثقل الرحلة وقيمة المشاركة.
إنه التكلف بعينه. ذلك الشعور الثقيل بالتصنع حين تخرج الكلمة من الفم بينما الروح غائبةٌ. أشعر أنني أمارس “غسيل مشاعر“ لأُبيّض صفحتي أمام الآخر وأُجنّب نفسي اللوم الاجتماعي، دون أن أُكلّف ذاتي عناء تنقية حقيقة ما بداخلي. يترتب على هذا التكلف خسارة مزدوجة: خسارة للحظة الصادقة مع الآخر، وخسارة للنزاهة مع الذات.
إعادة تطعيم الوعي وقيمة الأصالة اللغوية
إن أزمة “صنمية العبارات” هي في جوهرها أزمة أصالة وشفافية. وحين تُصبح اللغة مجرد طقس، يموت التواصل النبيل. الكلمات التي نستخدمها ليست مجرد أدوات، بل هي انعكاساتٌ حادة لما ندور حوله في حياتنا الداخلية. حين تكون اللغة جوفاء، تكون العلاقة جوفاء، ويكون الوجود ذاته مهدداً بالفراغ.
إنني لا أطلب إلغاء المجاملة، فـ “المجاملة الموقوتة” هي دافعٌ اجتماعي طيب ينبع من الرغبة في التخفيف. لكنني أدعو إلى تطعيمها بالوعي النافذ، وإلى إعادة الروح إلى هذه الهياكل اللغوية المستهلكة بأن نملأها بقصدٍ صادقٍ ونظرةٍ حقيقيةٍ تتعدى السطح.
أن أقول لشخص: “أتمنى لك يوماً هادئاً” هي عبارةٌ قد تكون افضل بكثير من “كن إيجابياً”. الأولى تعترف بعبء الحياة، وتقرّ بالتحديات التي يواجهها الفرد، وتدعو له بالسكينة كهدفٍ نبيل. الثانية هي أمرٌ فجٌّ يُلغي التجربة ويُصادر حق الإنسان في الشعور.
أن أسأل صديقاً: “كيف كان نومك؟” أو “ما هو الشيء الذي أبهجك اليوم؟” هو سؤالٌ يتجاوز المجاملة السطحية ويتغلغل إلى تفاصيل حياته اليومية التي تشكل جوهر وجوده. هذا التفرّد في السؤال هو ما يكسر القيد ويفتح الباب أمام الحقيقة.
إننا بحاجة إلى “إعادة تأهيل لغوي ووجداني“ يتجاوز مفردات الرواج اللحظي. علينا أن نُدرك أن الكلمة، حين تخرج من القلب ومحملة بوعي اللحظة، تكون طاقة تشفي لا قناعاً يخفي. تكون جسراً من الدفء الإنساني يُبنى بحذر في عالم يزداد برودة وانعزالاً، ما خرج من القلب وقر في القلب.
فلنبدأ بأن نكون، ولو قليلًا، أصيلين ورحماء لطفاء في قولنا. لنمارس “صمت اليقظة“ حين لا نجد الكلمة المناسبة. لأن الصمت الصادق، في كثير من الأحيان، هو البيان الأبلغ، وهو أجمل ما يمكن أن نقوله حين تنهار صنمية العبارات وتُصبح الأقنعة عبئاً لا مفر منه. هذا الصمت هو نقطة البداية لإعادة بناء لغتنا، ولإعادة بناء علاقاتنا، ولإعادة بناء أصالتنا المفقودة.
دعوة لاستعادة روح الكلمة
في نهاية المطاف، ليست هذه الصنمية للعبارات مجرد مسألة لغوية؛ بل هي إفصاحٌ صريح عن “كسلٍ في الروح“ ورغبةٍ عميقة في التخفي وراء قوالب جاهزة تُجنبنا عناء المواجهة الوجدانية. اللغة هي حقلنا الوجودي، وحين نُسوّق لكلماتٍ جوفاء، فإننا نُسوّق لوجودٍ مفرغ من المعنى الأصيل.
إن التحدي اليوم لا يكمن في إتقان فن الكلام، بل في إتقان فن الوعي بالكلمة؛ أن نُدرك الثقل الأخلاقي والدلالي لكل حرف نُطلقه. لتكن مهمتنا المشتركة هي استعادة الشغف بالصدق، ورفض الركون إلى الإجابات المبرمجة التي تقتل اللحظة وتستنزف الحقيقة.
لنجعل من كل كلمة نطلقها جسرًا للوصل الحقيقي، لا نقطة هروب إلى السطح. إن الأصالة هي العملة الوجودية الوحيدة التي تستحق التداول في سوق المشاعر الإنسانية المكتظ، وهي وحدها القادرة على ترميم الجسر المنهار بين ما نظهره للعالم وبين حقيقة دواخلنا.
وكما قال الفيلسوف والطبيب النفسي فيكتور فرانكل: “ما يحتاجه الإنسان حقاً ليس العيش في حالة خالية من التوتر، بل السعي من أجل هدف يستحق تحقيقه“. هذا السعي يبدأ بصدق الكلمة.
__________________________________
*مختص في الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي