فنون وآداب

مونولوج | ألاعيب ذاكرة مُتعبة

موسى رحوم عباس * – العربي القديم

    كان ذلك في العام 1978/1979 كنتُ حينها طالبا في سنتي الثالثة في كلية الآداب بجامعة حلب. قرويٌّ، انعزاليٌّ، مولعٌ بالقراءة، والقرويُّ مُتطرِّف في كلِّ شيء. إذا أحبَّ تعلَّق بكلِّيته، وإذا كرِهَ لا يجد التَّسامح طريقا إلى قلبه! هكذا أظنُّ، لذلك كان تعلقي بالماركسيَّة نوعا من هذا التطرف الرُّومانسي، والتعلق بأوهام العدل وإنصاف الفقراء والمُضطَهدين، إذ لم أكن متعمِّقا في فلسفتها، أو مطلعا على أفكارها، بل كنت على السَّطح، أقرأ ما يتوفر لي من رأس المال، ولا أفهم ربعه، وآراء لينين في الأدب والفن، وبعض ترجمات دار التقدم رخيصة الثمن، الديالكتيك، الحتمية التاريخية، مراسلات ماركس وإنجلز…حتى إنني تصورت أن الحياة في موسكو أو لينينغراد جنَّة دونها جنَّة عدن! ألمْ أقلْ إنَّني قرويّ؟!  ولشد ما ابتهجت عندما وجدت أستاذا ماركسيا عتيقا في قسمنا يدرِّسنا النقد الحديث، وفي الحقيقة لم يكن نقدا ولا حديثا، بل كان يتمحور حول المدرسة الواقعية الاشتراكية والبطل الإيجابي وبعض التحليل لنماذج من الأدب السُّوفييتي حينها الرُّوسي لاحقا!

واستكمالا لقرويتي وقعتُ تحت سطوة الشِّعر، وأعتقد إنني مع كثيرين كنتُ أحرص على شراء ملحق “الثورة الثقافي” وأظنُّ أنَّ المشرف عليه آنئذ شاعر سوري قادم من بيروت وباريس واسمه كان غريبا علي، أدونيس!!  فتشت عنه فإذا هو مستلٌّ من الميثولوجيا، لكن الأمر اختلط عليَّ: هل هو مأخوذ من الميثولوجيا اليونانية أم الفينيقية؟ الأولى رمزيته سيئة، والثانية شخصية خيِّرة تقترب من الآلهة؛ لذا رجَّحتُ الثَّانية، وتأكدتُ من ترجيحي عندما علمتُ أنه ينتمي للحزب القومي السُّوري صاحب النظرية الفينيقية والأمَّة السُّورية، على الرغم من أنَّ الاثنتين تتفقان على أنه نتاج علاقة محرَّمة بين أبٍ وابنته الجميلة، ويجب أن أعترف الآن بأن إعجابي تمحور حول نقطتين:

الأولى شعره الطويل وذلك الغموض الذي يعطي لعينيه عمقا عندما تنسدل خصلاته مُخفية نصفهما أو أكثر.

والثانية الغليون “البايب” الذي يثبته بقوة واحتراف بين أسنانه!

 وزاد إعجابي به عندما علمتُ أنَّه قرويٌّ مثلي، وإن أدرج مفردات من الأساطير، أو أماكن لم يصل إليها أجدادي مثل هارلم، سوهو، الحي اللاتيني، الكونكورد، … وقررتُ أن أطيل شعري أولا، وأشتري “بايب” لاحقا عندما يتوفر لي ثمنه، وأزور تلك الأماكن مهما كلَّف الثَّمن، حققتُ لاحقا أيضا بعضا من هذه الأماني، لكنني واجهتُ معضلة كبرى، هي فهم تلك النَّصوص أو “المدارات” كما كان يسمِّيها، وكنتُ أكتبُ على سبيل المثال:

 “الطَّحالب الزَّرقاء، الخضراء، عرشه على الماء، مروان بن محمد، الخوارج، النِّفري، هارلم، سُوهو، البحر، الغيوم القرمزية، الحي اللاتيني …”

وأحاول تفسيرها مستعينا بالمصادرالمتوافرة لي، وهي شحيحة، محاولا اكتشاف القُطبة المخفية فيها مستعيرا هذا التعبير من صناعة السجاد الإيراني،  وأحيانا ببعض الأصدقاء الذين لن يسخروا من عدم فهمي لاحقا. تجرأتُ مرَّة وسألتُ أستاذا جامعيا عن بعض ما أشكل عليَّ، وبخاصة إعادة التدوير(RECYCLING ) من نص لآخر، لكنه ابتسم ابتسامة صفراء، ربما رثاءً لجهلي، أو أراد أن يقول شيئا آخر! وبعد أربعين سنة أستطيع القول إنه لم يبقَ لي من ماركسيتي سوى تلك الذِّكريات البائسة، ولم يبق من البطل الإيجابي إلا بقايا بطولة ناقصة، وكلما كتبتُ قصة أو رواية أحتارُ في توصيف أبطالها، هل هم إيجابيون ينعمون بحياة رخية في “الكومونة” أم سلبيون ينتمون للبرجوازية “العفنة”؟

 رحم الله أستاذي الإيجابي وأبطاله، كما لم يبق لي من “أدونيس” سوى “البايب” الذي وصلني هدية من ابني المُشفق على ضياع أحلامي، وذكريات جميلة عن تلك الأماكن التي دفعني لزيارتها، وكانت سببا في إفلاسي! وإنِّي أسامحه، وأدعو له بطول العمر، وأنا أتلو قوله تعالى من سورة طه ” قال ربِّ اشرح لي صدري، ويسِّر لي أمري، واحللْ عقدةً من لساني؛ يفقهوا قولي” لعلِّي أفقه قوله، أو بعض قوله! متفائلا بحكمة جاري سائق صهريج النِّفط المُهرَّب أو المسروق – علمه عند الله-  التي خطَّها في مؤخِّرة صهريجه بالخطِّ الثُلُث ” أن تأتي متأخرًا خيرٌ من ألَّا تأتي أبدًا”

                                                                      إسكلستونا – مملكة السويد 2024  

  • أديب سوري، عضو اتحاد كتاب السويد
زر الذهاب إلى الأعلى