العدالة الانتقالية والإصلاحٌ النفسي والأخلاقي والسلوكي
لن يصبح هؤلاء مؤهلين للقصاص حتى، إلا قبل أن يتم إخضاعهم لعلاجٍ نفسي وعقلي وسلوكي، يضمن أن يرجعوا بشراً أسوياء

أسامة منير إبراهيم – العربي القديم
لم يعد اليوم ثمة غضاضة في القول أن السوريين لم يدخلوا التاريخ الحديث السياسي للدول وحسب، وإنما صنعوه وعاشوه حقيقة، بعد مسيرة 14 عاماً من المواجهة مع نظام فاجر لم تعرف البشرية ربما عبر تاريخها إيغالاً وتفنناً بالإجرام بحق الأبرياء كما فعل.
تطلُّ علينا اليوم مسائل ملحّة في النقاش والتحرّك لوضع حلول لها، في خضم فرح السوريين وسوريا الذي عاشه العالم أجمع مع الشعب السوري منذ يوم التحرير 08/12/2025، إحدى هذه المسائل هي إنفلات الكثير من المجرمين الذين استدموا كما نقول وأصبح سفك دم الأبرياء عندهم سلوك ومنهج حياة يومي، وما يزيد مخاوفنا أن هؤلاء المطلقين ممن ألقوا هوياتهم العسكرية والأمنية وسلاحهم وهربوا داخل البلد وربما خارجها، وبدأوا يطلّون علينا بڨيديوهات تقول الكثير، ومنهم مثلاً نائب قائد قوات النمر، الذي حذَّر من عواقب الفوضى الأمنية في الساحل، وأن الوضع بحسب تعبيره كان ” يحتاج لضبط فوري” وإلا سيتدخلوا على طريقتهم كما قال. ليتابع هذه التهديدات بحق المجتمع عسكري آخر ظهر مع رفاقه يعبّر عن غيظٍ يجتاحه من أمر إلقاء السلاح والإنسحاب الذي تلقاه من قيادة النظام السابق عشيّة ليلة التحرير، مصرحاً بأنهم أصحاب تاريخ وطني عريق في المقاومة وأنهم لم ينهزموا أمام آلة الحرب المتقدّمة لدول كبرى بحالها! فكيف بهم اليوم سيلقون السلاح وعدوّهم الأول-الإرهاب- لم يزل يسرح ويمرح بل قويت شوكته وتسلّم مقاليد الحكم وكما نقول في عاميتنا السورية “بليلة ما فيها ضو قمر”.
يحتّم علينا السيناريو الذي طرحته هاتان الشخصيتان وما آل إليه مصيرهما” واحدٌ قتل في اشتباك مباشر مع الأمن العام، وآخر هرب ولا يُعرف له أثر بعد ما افتعل من أحداث جرت الويلات على أهله في الساحل” وشخصية وسيم الأسد الذي تم القبض عليه البارحة وكان يعتقد بأنه سيعيش الأبد الأسدي إلى الأبد، بوصفه قائد ميليشيا وتاجر كبتاجون لن يطلع صبحٌ عليخ إلا كما يحب ويشتهي، بأن نتوقف عندها ليكون نقطة علام في الطريق نحو بناء حالة اجتماعية ونفسية لمن ستطلبهم الجهات العدلية والقانونية للتحقيق معهم وإصدار الأحكام الخاصة بهم بعد ذلك. ولكن عندما نرى أن الوطن اليوم على كل ترابه اجتمع على قلب رجل واحد في الاحتفال بنصرٍ استغرق انتظاره لا 14 عاماً بل 54 عاماً بالضبط، وأخذت حالة الحفاظ على هذا النصر تترسخ في نفوس وممارسات وسلوك السوريين كما يرى القاصي والداني، وفي ظل حالة الإيجابية التي عمّت أرجاء الوطن، نرى أننا جميعاً مطالبون بالحفاظ عليها خطوة خطوة كي ينعم بالمنجزات التي ستحققها حالة الانتصار هذه كل السوريون دون استثناء.
ولذلك يمكننا القول أن دمج الفئات التي مارست الإجرام، بل أصبح منهج حياة عندها، على مَن مِنَ المفترض أنّهم مواطنيهم لمدة تزيد عن عقدٍ من الزمن سيكون أمراً بالغ الصعوبة فليس لنا حيلةٌ هنا من نزع الوسواس القهري بالسلطة المطلقة التي منحها هؤلاء فقط ليدافعوا عن كرسي سيّدهم الهارب الذي سقط من أعينهم قبل أن يسقط من أعين غيرهم بهروبه السري هذا، والذي لم يكن على علم به أقرب المقرَّبين منه. وهكذا سيكون اقتناع هؤلاء بأنّهم ليسوا مجرمين سادة في المجتمع، يعذِّبون الأبرياء من أحرار سوريا بطرق تخطر ولا تخطر على بال آدمي، بالأساليب والأدوات التي شاهدها العالم بأسره في رابعة النهار عبر الفضائيات، أمراً صعباً بل غاية في الصعوبة، أن يتحوّل هؤلاء المجرمين إلى أناس طبيعيين بإمكانهم أن يفرِّقوا بين الخير والشر، وكف أذاهم عن أقرانهم في المجتمع وأن الإنسان الواعي هو الذي يبادل مجتمعه الإيجابية والأخلاق الحسنة ويقدم للمجتمع أفضل ما لديه من أخلاق ومشاركة في كل الأماكن من العمل والجوار وغيرها.
لن يصبح هؤلاء مؤهلين للقصاص حتى، إلا قبل أن يتم إخضاعهم لعلاجٍ نفسي وعقلي وسلوكي، يضمن أن يرجعوا بشراً أسوياء على المستويات التي ذكرت” نفسياً وعقلياً وسلوكياً وأخلاقياً”، فليس ينفع العقاب مع مدمن مخدرات محترف بالتعاطي بعد أن يتناول جرعة كبيرة تشبع إدمانه!!! فهل هو في حالة عقلية تسمح لعقله أن يستوعب ونفسه أن تحس ووجدانه أن يشعر بقيمة هذا العقاب! كيف لمدمن إجرام أن يبرر اليوم بعد سحب كل صلاحياته منه وبقائه وحشاً فالتاً من عقاله أنّ هناك جهة عدلية صنّفته أنه مجرم ويستحق العقاب!
هذا الذي يعيش إدمان السلطة الإجرامية المطلقة ونشوتها مع كل حالة تعذيب يقوم بها لجثة إنسان بريء، فكيف بنا اليوم أن نستوعب أنَّ العقاب يفيد مع هذا الصنف من المجرمين الذي أحسبه دخل ميدان التحليل النفسي بجدارة، وهو حالة معاكسة تماماً لـِ ( أعراض ستوكهولم) بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وكيف طالب المعتقلون في سجون النازية بإعادة سجانيهم ليمارسوا عليهم أنواع التعذيب التي أدمنوها، هل بإمكاننا اليوم أن نجترح مصطلحاً يحتوي هذه الحالة من الاستدماء والإنفلات النفسي الإجرامي عند هؤلاء بالقول مثلاً” سيكوبائية مجرمي الحرب السورية“؟ أم ” الاعتلال النفسي الإيديولوجي الإجرامي” أم التعصّب الإجرامي”، أم في حالتنا السورية لهؤلاء المجرمين الذين فلتهم سيدهم وهرب أن نقول أن حالتهم النفسية والعقلية تحتمل الحالات الثلاثة معاً؟.
لا أحسب أنني ابتعد عن السياق لحالتهم تلك إن قلت لا يكفي معهم أبداً وليس الوجهة الصحيحة نحو دمجهم في المجتمع أن يتم تقديمهم للعدالة وتنفيذ حكم القانون فيهم، وأتكلم هنا عمن لن تستطيع العدالة إثبات جرائمه فهو في نهاية المطاف سيكون بلا عقاب كما رأينا في تصريحات عن فلان وفلان بأن لا دليل على جرائمهم، لذلك سيكون عقاب هؤلاء الأول أن يخضعوا لبرامج تأهيل نفسي وأخلاقي وسلوكي، قبل أن يتم تقديمهم للعدالة، وإلا ستكون العدالة بحقهم كما أشرت سابقاً هي مثل إيذاء جسدي لمدمن مخدرات تعاطى حقنته لتوّه. وأختم هنا ما سمعته على لسان وزير عربي تعرّض لمحاولة اغتيال من مجرم عشوائي في أحد الدول الأوروبية باءت بالفشل، فجاءت إليه السلطات هناك تطلب منه إكراماً له واعتذراً منه أن يختار الطريقة التي يحكم بها على هذا المجرم، قالوا نعدمه لو أردت؟ قال: لا، إعدام من مثل هذا يريحه، بل اسجنوه مؤبداً مع حرمانه من كل الملذات التي يعيش لأجلها، وهذا أكبر عقاب لمثل هذا النموذج البشري الفاشل أخلاقياً ونفسياُ وعقلياً وسلوكياُ. وفي حالة مجرمي حرب سوريا، سيكون الإصلاح وإعادة التأهيل على المستويات التي ذكرت هو العقاب والقصاص الذي سيسكن الألم الإيجابي في أعمق تفاصيل الوعي والوجدان والنفس والجملة العصبية لهذا النوع من البشر الذي دمره النظام السابق وجعله عبارة عن مخلفات بشرية غير قابلة للتدوير وإعادة الاستخدام البشري مرة أخرى.