رغيد الططري الطيار الدمشقي الذي رفض قصف حماة وصار أقدم سجين في العالم
العربي القديم – خاص:
” رأى ابنه لأول مرة وهو في الرابعة عشرة من العمر وقال له وهو خلف قضبان سجن تدمر: والله صرت شب يا وائل! “
اعتقل في مطار دمشق الدولي وهو في السابعة والعشرين من العمر، وبحلول العام 2024 يكون الملازم أول الطيار رغيد الططري قد قضى داخل السجن (43) عاماً، ويكون ابنه وائل الذي ولد عقب اعتقاله، قد تخطى الـ (43) عاماً من العمر أيضاً.
إنه الطيار الدمشقي الذي رفض أن يقصف مواقع في محافظة حماة بأوامر من نظام حافظ الأسد هو واثنان من الطيارين السوريين السنة، فاعتقل ثم سرح من الجيش، ثم جرى اعتقاله مرة أخرى في تشرين الثاني/ نوفمبر من عام 1980 ليكون أقدم سجين سياسي في العالم، كما تسميه رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا، التي خصصت له أكثر من صفحة على موقعها على الشبكة العنكبوتية، وأطلقت بالتعاون مع ابنه (محمد وائل) حملة تضامنية للمطالبة بإطلاق سراحه.
اللقاء الأول في سجن تدمر!
أول مرة رأى فيها رغيد الططري ابنه الوحيد الذي ولد بعد اعتقاله كانت بعد 14 سنة. كان ذلك في سجن تدمر الصحراوي الرهيب عام 1994. لا ينسى وائل العبارة التي قالها والده عندما وقع بصره عليه: “والله كبرت وصرت شب يا وائل” وقد روى وائل في حوار له عام 2022 تفاصيل ذلك اللقاء قائلا:
“كان ذلك اليوم كابوسياً والطريق طويلة وصعبة وكنت خائفاً فهذه المرة الأولى التي سأرى أبي فيها. حينها قال لي عمي هل تعلم أنهم يراقبوننا ويسمعون كل ما نقوله” لاحقاً أدخل رجال الأمن كلّ شخص بمفرده وحققوا معه، وحين جاء دور وائل، سأله العسكري، أن يجيب بـ”لا” أو “نعم” على اسئلته، وكان العسكري يعلم مسبقاً كلّ شي عن الطفل بما في ذلك اسمه ومكان سكنه وحتى أسماء رفاقه في المدرسة وهذا ما أثار الرعب في نفسه، بخاصة حين ذكر أسماء أصدقائه. بعدها انتقلوا لرؤية رغيد في غرفة يفصل بينه وبين ابنه فيها شبك حديدي، كان العم قد جهّز الطفل لاحتمال أن يكون والده متعباً أو تعرض للتعذيب، يقول وائل: “كان بالفعل متعباً لكن عيونه قوية، ثمَّ سألني: “كيفك وائل، والله صرت شب!”. (1)
في عام 2000 وكان وائل قد غدا في العشرين من العمر، تم نقل الملازم الطيار رغيد الططري إلى سجن صيدنايا، ضمن حملة تحسين النظام لصورته أثناء التحضير لعملية خرق النظام الجمهوري وتوريث الجمهورية. كانت عائلته تراه مرة كل عام فقط، يستذكر وائل رؤيته في إحدى المرات أنهم: “تمكنوا من الجلوس في مكتب وعلى الكراسي وشربوا القهوة (كانوا محظوظين في حينها)، ولذلك ربما شعر وائل بالراحة وتمكن من الحديث مع والده من دون خوف، ليسأله والده: “عندك بلايستيشن؟”، يقول وائل: “صُدِمت حينها لأن حلمي كان أن أحصل على واحدة، صُدِمت لأنه وعلى الرغم من وجود أبي في السجن كل هذه السنوات كان يعلم بالبلايستيشن، في تلك اللحظة تكلم عن شيء خارج السجن، أشعرني أنه معي ونتحدث عن موضوع تافه”، يتابع بحرقة: “اليوم عمري 41 سنة وتلك هي المرة الوحيدة التي تحدثت فيها مع أبي بموضوع طبيعي، مثل هالأكلة الطيبة؟ ورغم أن هذا الشيء قد يبدو تافهاً إلّا أنه يعني لي الكثير”. (2)
عاشق الطيران
ولد رغيد الططري في مدينة دمشق في 25 من كانون الأول/ ديسمبر عام 1954، درس في مدارس دمشق، ولكن قبل إتمام المرحلة الثانوية تقدم بطلب القبول للكلية الجوية، على أساس دورة خاصه للطيارين الحربيين وكانت تلك الدورات الخاصة يدرس فيها طلاب الكلية الجوية المرحلة الثانوية إضافة لممارستهم الطيران وتم قبوله بالكلية الجوية عام 1972 بعد اجتيازه الفحوصات الطبية وبدأ ممارسة المهنة التي حلم بها.
بدأ الطيران عام1973 قبل حرب تشرين بأشهر وكانت برفقة الرائد (سيف الدين قبيطري) على طائرة إنكليزية الصنع من طراز تشبمنك وهي طائره ذات محرك مكبسي، وبعدها تولى تدريبه النقيب طيار (تحسين عبيد) الذي شهد أن الططري كان من الطيارين المتميزين وبعدها انتقل الى الطيران النفاث… وأتم برنامج التدريب وتخرج من الكلية الجوية عام 1975 كطيار قتال في الأسراب المقاتلة… وتخرج من الكلية الحربية عام 1975 وخدم في عدة أسراب.
السجون التي التهمت سنوات عمره!
اعتـقل الططري للمرة الأولى في 1980، لأنه رفض قصف مواقع في محافظة حماة، مع طيارين آخرين. وبينما عاد رغيد وصديق له إلى القاعدة الجوية في حلب دون أن تنفذ الغارات الجوية… تم توقيفه وووجهت له تهـمة عصيان الأوامر، إلا أن المحكمة العسكرية قضت بعد عام تقريباً بتبرئته، برأته من التهمة، استناداً إلى كونه ملازم أول نفذ أوامر قائده بعدم تنفيذ عملية الاستهداف، لكن المحكمة التي كانت مضطرة لابتلاع حقيقة أنه لم ينفذ أوامر قصف حماة بسبب طبيعة النظام العسكري التي تفرض طاعة الرتبة الأعلى، رأت أنه بات مشكوكاً بولائه، قامت بتسرحيه من الجيش لعدم الوشاية بزملائه أيضاً.
إثر تسريحه من الجيش سافر رغيد إلى الأردن أواخر العام 1980 وبقي فيها ثمانية أشهر، لينتقل بعدها إلى مصر، ويحاول أن يقدم لجوءاً لدى مفوضية الأمم المتحدة لكنه لم يلق قبولاً لكونه شخصية عسكرية. في السادس من تشرين الأول/ أكتوبر وخلال عرض عسكري في مدينة نصر، تم اغتيال الرئيس المصري محمد أنور السادات، اندلعت بعدها أعمال عنف واضطرابات، ناهيك عن قيام أجهزة المخابرات باستدعاء زوجته الحامل عدة مرات إلى أفرع الأمن للتحقيق معها، ما أجبر رغيد على العودة إلى وطنه سورية.
بتاريخ 24 من تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه قامت المخابرات الجوية باعتقاله في مطار دمشق فور عودته من مصر.
تسرد رابطة معتقلي صيدنايا بدقة تنقلات الملازم الطيار رغيد الططري بدقة على النحو التالي:
– أودع رغيد لدى إدارة المخابرات العامة في 24 تشرين الثاني 1981 لمدة أسبوع قبل أن ينقل إلى سجن المزة العسكري بدمشق في 1 كانون الثاني 1985 ويبقى فيه حتى 20 أيار/ مايو 1986
– 21 أيار/ مايو 1986، تم نقل رغيد من سجن المزة العسكري ودخل فيه إلى الجحيم الأرضي المسمى “ســجن تدمر العسكري” والمصنف كثاني أخطر سجن على مستوى العالم.
– 24 آب/ أغسطس 2000 نقل إلى سجن صيدنايا، وأعلن عام 2001 عن إغلاق السجن. وحسبما يذكر أحد النزلاء، فقد كان رغيد الططري يخفف عن معتـقلي سجن صيدنايا، بأن يحكي لهم ما مرَّ على رأسه في سجن تدمر، مشيراً إلى أن المقارنة بين السجنين تعني أن سجن صيدنايا هو “إخلاء سبيل”. وفي صيدنايا شهد رغيد الططري أحداث عصيان السجناء الذي بدأ في 5 من تموز 2008، واستمر ثمانية أشهر وفيها ساءت أحوال السجن، حتى أنهى ماهر الأسد العصيان بعملية اقتحام وتنفيذ مجزرة
– 27 من آب/ أغسطس 2011 بعد إعلان نظام بشار الأسد شكلياً إلغاء قانون الطوارئ نقل الططري إلى سجن عدرا المركزي بريف دمشق
– 2 من نيسان/ أبريل 2016. نقل الططري إلى سجن السويداء. (4)
بحلول العام 2024 يدخل رغيد الططري عامه السبعين، وقد قضى حتى الآن حوالي ثلثي عمره خلف القضبان، ليكون أمثولة للعديد ممن رفضوا أن تتلوث أيديهم بقتل أبناء وطنهم، وعاشوا مرارة السجن والعذاب الطويل كي يفدوا بأعمارهم قيم الحق والوطنية ورفض أوامر القتل وجرائم الاستبداد.
هوامش:
(1) و(2) كارمن كريم: ابن أقدم سجين سياسي في العالم يحكي قصته – موقع (درج) الإلكتروني: 28/11/2022
(3) أعيد فتح سجن تدمر مرة أخرى يوم 15 يونيو/ حزيران 2011 بعد اندلاع الثورة الشعبية ضد حكم بشار الأسد
(4) تنقلات رغيد بالسجون- موقع (رابطة معتقلي ومفقودي صيدنايا) الإلكتروني: 10/12/ 2020
_____________________________________________
من مقالات العدد الثامن من مجلة (العربي القديم) شباط/ فبراير 2024