خطة ترامب للسلام بين أوكرانيا وروسيا: سلامٌ أم استسلام؟
جزء من سياسة أمريكية جديدة تُراجع فيها واشنطن التزاماتها العالمية، وتبحث عن تسويات سريعة تُعيد ترتيب أوراق نفوذها

عدي شيخ صالح * – العربي القديم
منذ طرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في ولايته الثانية، خطة سلام من 28 بندًا لإنهاء الحرب الروسية–الأوكرانية، انقسمت التحليلات بين من رأى فيها محاولة دبلوماسية “جريئة”، وبين من اعتبرها أكبر عملية فرض استسلام سياسي على أوكرانيا منذ استقلالها. لكن ما يميّز هذه الخطة ليس محتواها فقط، بل الدلالات الاستراتيجية التي تعكس تحوّلًا في منطق الهيمنة الأمريكية من دعم غير مشروط لكييف إلى صيغة جديدة تُعيد ترتيب الأدوار وفق حسابات داخلية وخارجية مختلفة.
في هذا المقال، نحلّل أبرز بنود الخطة، وسبب اعتبارها “خطة استسلام مذل”، والدوافع الأمريكية وراء صياغتها، والتداعيات المحتملة لاعتمادها.
أولًا: أبرز ما تتضمنه خطة ترامب
- جيش محدود لا يتجاوز 600 ألف:
تضع الخطة سقفًا ثابتًا للقوات المسلحة الأوكرانية، لا يزيد على 600 ألف جندي، وهو رقم يُعدّ انخفاضًا ملحوظًا قياسًا بحجم التعبئة العسكرية التي تبنّتها كييف منذ 2022. هذا القيد يُنظر إليه كجزء من محاولة إضعاف القدرات الدفاعية لأوكرانيا وتقليص الحاجة الغربية لدعمها لاحقًا.
- تعهّد دستوري بعدم الانضمام للناتو:
تطالب الخطة كييف بإدراج بند في الدستور يمنع الانضمام إلى الناتو مستقبلًا، ويمنع انتشار أي قوات للحلف داخل الأراضي الأوكرانية. وهي خطوة تُخرج أوكرانيا نهائيًا من المظلّة الأمنية الغربية التي كانت جزءًا من استراتيجيتها منذ 2014
- ترسيم مناطق تُسهّل لموسكو الاحتفاظ بمكاسبها :
تقترح الخطة التعامل مع دونيتسك ولوغانسك كـ“منطقة منزوعة السلاح” ولكن بصفة إقليم روسي فعلي. كما تُجمّد خطوط السيطرة في خيرسون وزابوريجيا، وتعتبر القرم “منطقة تحت السيطرة الروسية” بشكل عملي. أي أنها تمنح موسكو ما عجزت عن فرضه كاملًا عسكريًا.
- ضمانات أمنية محدودة وقابلة للإلغاء:
رغم أنها تتحدث عن “ضمانات أمنية” أمريكية لأوكرانيا، إلا أنها مشروطة ويمكن إلغاؤها إذا اعتبرت واشنطن أن أوكرانيا انتهكت الاتفاق. كما تنص على حوار أمني بين روسيا والناتو بوساطة أمريكية، ما يجعل موسكو طرفًا مركزيًا في البنية الأمنية الأوروبية.
- إعادة إعمار بأموال روسية – بموافقة روسية :
تطرح الخطة استثمار نحو 100 مليار دولار من الأصول الروسية المجمّدة في إعادة إعمار أوكرانيا، إضافة إلى مشاريع استثمار أمريكية–روسية مشتركة، وهو ما يعيد دمج روسيا اقتصاديًا مبكرًا.
- عفو عام شامل عن جرائم الحرب:
البند 26 ينص على عفو كامل عن جميع الأطراف، ما يعني إغلاق ملفات الجرائم الروسية في أوكرانيا، وحرمان الضحايا من العدالة.
- مجلس سلام بقيادة ترامب:
تنشئ الخطة “مجلس سلام” يرأسه ترامب شخصيًا لمراقبة التنفيذ، ما يمنح واشنطن سلطة مباشرة في إدارة الصراع وتوازناته.
ثانيًا: لماذا وُصفت بأنها “استسلام مذل”؟
وصف كثير من المحلّلين الخطة بأنها استسلام مُغلّف بلغة السلام للأسباب التالية:
- تنازلات إقليمية ضخمة:
الخطة تمنح روسيا اعترافًا فعليًا بما أرادت انتزاعه بالقوة. هذا يكرّس سابقة خطيرة: تحويل الاحتلال إلى أمر واقع مُعترف به.
- تقويض الأمن القومي الأوكراني:
تحديد حجم الجيش ومنع الانضمام للناتو يسلبان كييف أهم أدوات الردع، ويجعلانها رهينة لضمانات أمريكية غير ملزمة.
- ضمانات رمزية لا تُقيّد موسكو:
الضمانات قابلة للإلغاء، ما يجعل أوكرانيا في وضع هش، بينما تخرج موسكو من الحرب بمكاسب أكبر وقيود أقل.
- عفو شامل يُكرّس الإفلات من العقاب:
إغلاق باب المحاسبة يجعل روسيا رابحة سياسيًا، ويقوّض ثقة الأوكرانيين بشرعية أي تسوية.
- إعادة إدماج روسيا بدل معاقبتها:
بدلًا من أن تكون الحرب تكاليف على موسكو، تمنحها الخطة بوابة للخروج من العقوبات واستعادة دورها الدولي.
- تجاهل أوروبا وضرب وحدة الغرب:
الخطة وُضعت عمليًا دون مشاورة أوروبية أو أوكرانية حقيقية، ما يعزّز الانطباع بأنها إملاء أمريكي–روسي على حساب كييف.
ثالثًا: الدوافع الأمريكية – ما وراء الخطة؟
- مكسب سياسي داخلي لترامب
طرح خطة سلام واسعة يعطي ترامب صورة السياسي القادر على “إنهاء الحروب” بسرعة، وهو خطاب يلقى شعبية لدى قواعده الانتخابية.
- إنهاء الاستنزاف المالي والعسكري:
واشنطن تبحث عن مخرج من فاتورة الدعم العسكري المتصاعدة، والخطة تخفّض التزاماتها المستقبلية بشكل كبير.
- إعادة ضبط العلاقة مع روسيا:
الإدارة الجديدة ترى أن إعادة دمج روسيا اقتصاديًا قد تكون ورقة ضغط أفضل من استمرار العقوبات المفتوحة.
- فرض شروط أمريكية على أوكرانيا:
الخطة تضع كييف أمام معادلة: إما قبول التنازلات، أو مواجهة حرب مفتوحة بلا ضمانات دولية. وهو ما يصفه البعض بأنه “سلام بالإكراه”.
- تراجع منطق الهيمنة الأمريكية التقليدية:
ربّما الأهم: الخطة تُظهر أن الولايات المتحدة لم تعد تقدّم دعمًا مطلقًا لحلفائها كما في السابق، بل أصبحت تميل إلى حلول براغماتية تُحافظ على نفوذها ولو على حساب حلفائها الأصغر.
وهذا جزء من التحوّل في بنية السياسة الأمريكية عالميًا.
رابعًا: التداعيات المحتملة لاعتماد الخطة
- أوكرانيا : خسارة سياسية وأمنية:
قبول الخطة يعني تثبيت واقع جيوسياسي جديد يضع كييف في موقع الدولة المنهكة، ويقلّص طموحاتها الأوروبية.
- روسيا: أكبر الرابحين:
اعتراف فعلي بالسيطرة، عفو شامل، وعودة اقتصادية تدريجية — أي انتصار دبلوماسي بعد تعثّر عسكري.
- أوروبا : انقسام داخلي عميق:
الخطة ستخلق أزمة ثقة داخل الناتو والاتحاد الأوروبي، وقد تؤدي إلى تعزيز الأصوات التي تدعو لبناء دفاعات أوروبية مستقلة عن واشنطن
- الولايات المتحدة: إعادة تموضع القوة:
إذا نجحت الخطة، ستظهر أمريكا كوسيط قوي، لكنها أيضًا ستُتَّهَم بأنها “باعت أوكرانيا لروسيا” مقابل ترتيب نفوذ عالمي جديد.
سلام أم إعادة إنتاج للصراع؟
خطة ترامب ليست مجرد أفكار لإنهاء الحرب، بل هي إعادة صياغة كاملة لتوازن القوى في شرق أوروبا.
هي خطة سلام من ناحية الشكل، لكنها عمليًا تفرض على أوكرانيا قبول حدود روسية، وجيش أصغر، وحياد دائم — أي الشروط التي طالبت بها موسكو منذ اليوم الأول.
لهذا يصفها كثيرون بأنها “استسلام مُقنَّع”، وقراءة دقيقة لها تكشف أنها تمثّل جزءًا من سياسة أمريكية جديدة تُراجع فيها واشنطن التزاماتها العالمية، وتبحث عن تسويات سريعة تُعيد ترتيب أوراق نفوذها بدلًا من أن تُعمّق صداماتها.
وفي النهاية، قد لا تُنهي هذه الخطة الحرب بقدر ما قد تضمن استمرار التوتر وتثبيت خطوط تماس قابلة للاشتعال دائمًا — سلام هش، يقوم على موازين قسرية، لا على عدالة سياسية أو توازن حقيقي بين الأطراف.
…………………………………………………..
*كاتب و باحث سوري مستقل في الفكر السياسي والاجتماعي، يهتم بقضايا الهوية السورية ، وتحولات الدولة، و إشكالات الانتقال السياسي بعد النزاعات.