الرأي العام

العشائر العربية: كيف يمكن دمجها مع الدولة؟

من كتابي الذي لم يحن أوان نشره: (المشروع الطائفي في سوريا)

مصعب الجندي – العربي القديم

العرب البدو: والمعني هنا العشائر العربية التي ماتزال تعيش حالة البداوة وليس أبناء العشائر الذين استقروا في سكنهم وتبدلت طبيعة نمط عيشهم إلى شبه مديني (غالباً قرى ريفية) ولم يعد يخضعوا للأعراف العشائرية بشكل كامل على الرغم من استمرار وجود رواسب لها لكنها ليست ذات أثر كبير في علاقاتهم وتعاملهم مع باقي المجتمع السوري، وهم في هذه الحالة يقتربون نوعاً ما من طبيعة العقلية العائلية (عصبية عائلية) في المدن والأرياف السورية عموماً، ومن الصعب الوصول إلى نسبة واضحة لمجمل العشائر في حالة البداوة للسكان وتطور أداء هذه العشائر وعلاقاتها السياسة وما هو حجم تأثيرها الحاضر وما يمكن أن يكون مستقبلاً.

الغالب في علاقات العشائر فيما بينها التناحر الدائم الناتج عن العقلية القبلية، وبالتالي كل عشيرة من الممكن أن تشكل قطيع وليس مجموع العشائر. وعلى الرغم أن النسبة الأكبر منها من العرب السنّة إلا أن الولاء ليس للمذهب وإنما للعشيرة. ومع بدايات القرن العشرين حتى أواسطه حاول بعض الشيوخ من توحيد العشائر وجعلها كتلة واحدة إلا أن السياسة تمكنت من فرط عقد أبناءها، فقد كان وما يزال من السهل جداً على السلطة أي سلطة (احتلال أو غير احتلال) زرع الثارات والضغينة بين العشائر، وأفضل واقعة تمثل فعل السياسة في تشتيتها نجدها حين العودة لتاريخ 13/1/1946 واغتيال الشيخ والنائب في البرلمان السوري طراد الملحم من عشيرة الحسنة التي تنحدر من الشعلان والرولة من قبل أحد أفراد عشيرة النعيم (الغريب هو المصاهرة بين شيوخ العشيرتين)، ذاك الاغتيال الذي كان ظاهره الثأر للشيخ متعب السيد الذي سبق وقُتل على يد أفراد من الحسنة قبل عام لخلاف على الأراضي التي تسيطر عليها كل عشيرة. كان الشيخ طراد الملحم المتحدث باسم نواب العشائر في البرلمان ويحظى باحترام بقية العشائر وكما تناقلت بعض الروايات كان يسعى لتشكيل مجلس للعشائر وتوحيد كلمتهم ومنح هذا المجلس الصفة القانونية من خلال التصويت عليه في البرلمان وعلى الأغلب حالة لم تكن تربك فقط السياسيين السوريين وإنما في جميع دول الجوار وخصوصاً الخليج العربي والعراق والسعودية فجميع العشائر لها امتداداتها الإقليمية وبالتالي تربك مهندسي الجغرافيا السياسية للمنطقة. يتحدث النائب أكرم الحوراني في مذكراته عن واقعة الاغتيال: (وبعد العدوان الفرنسي في عام 1945 تجدد الاقتتال بين العشيرتين، فساعد سعدالله الجابري الشيخ طراد بأن جرد من أجله حملة كبيرة على عشيرة النعيم اعتقلت عددا كبيرا منهم ونكلت بهم وجمعت كل ما لديهم من أسلحة ونهبت بعض مواشيهم …… ومن هنا يتبين الثمن الذي أراد الشيخ طراد أن يرد به الجميل للجابري.

 وقبيل حادث البرلمان بأيام اجتمع بي الشيخ عبد الجليل الحياري في مقهى الهافانا بدمشق على انفراد وأخبرني بأنهم مستعدون لاغتيال الشيخ طراد الملحم. ونظرا لما بيننا من أواصر المودة، فإن العشيرة فوضته أن يبحث معي هذا الأمر. فزجرته زجرا شديدا. وأوصيته أن يبلغ شيوخ النعيم بأن لا يقدموا على هذا الأمر الذي يعرضهم لأفدح الأضرار وأشد المهالك. أما من جهتي في المجلس النيابي فإنني كفيل بالشيخ طراد ونواب العشائر الذين يتزعمهم. وإنني لست بحاجة للاشتراك بهذه الجريمة الشنعاء التي أرفضها رفضا قاطعا… فانصرف الشيخ عبد الجليل خجلا نادما من مفاتحتي بهذا الموضوع، وقد كنت مقتنعا بأن النعيم لن يقدموا على هذا الأمر، ولذلك لم أهتم بالموضوع ولم أشعر بقلق………. عندما بلغني نبأ اغتيال طراد الملحم انصرف ذهني فورا إلى حديث الشيخ عبد الجليل الحياري. ولكن ذلك ظل سرا في نفسي منذ تلك الأيام حتى كتابة هذه المذكرات). أي أن الحوراني كان يعلم وأهمل ولم يتخذ أي خطوة لوقف الاغتيال، وفي مقتطفات مذكراته عن العشائر نجده يمتدح الشيخ عبد الجليل الحياري والنعيم ويطنب المديح للشيخ طراد الملحم والحسنة ثم يناقض نفسه: (لا يزال الكثيرون يستغربون كيف انني نجوت من القتل -خلال حياتي السياسية العاصفة- على يد الاقطاعية والعشائرية المهيمنة على البلاد والتي كان دوري كبيرا جدا في تهديم أركانها والقضاء على استغلالها ونفوذها وسلطانها ولا شك أن وقفتي الجريئة المستمدة من ايماني بما أقول تجاه مؤامرة شيوخ العشائر في البرلمان الذين كانوا يشكلون أشرس وأعتى قوة اقطاعية قبلية كان أحد هذه الأسباب). والمؤامرة التي ذكرها ولم يأتي على تفاصيلها هي تشكيل مجلس العشائر العربية أي جعلهم كتلة سياسية واحدة، بعض الروايات ذكرت أن الحادثة شارك بالدفع إليها آل سعود والبريطانيون، روايات فيها الكثير من الواقعية نلمسه أيضاً في مذكرات الحوراني: (أصبح للضابط البريطاني الميجر داردن شأن كبير ونفوذ واسع ونشاط في البلاد، ولا سيما في أوساط العشائر. وقد سهل اتصالاته وتعاظم نفوذه تغاضي السلطات السورية عنه بحجة أنه كان بجانب أهالي حماه إبان العدوان الفرنسي). الأمر الواضح من واقعة الاغتيال هو الخوف البريطاني مع كتلة السياسيين من وحدة كلمة العشائر العربية. والمطلعين على تركيبة جيش المشرق (الفرنسي) وكتيبة الهجانة فيه أي قوة البادية، يستغرب أن هذه القوة تتشكل من ضباط مدينيين (دمشق أو حلب أو غيرهما …) بالاضافة للفرنسيين أو السنغال، وأغلب صف الضباط والجنود كانوا من الأكراد أو العلويين والإسماعيليين”1″، بينما كان من المفترض أن يكونوا من أبناء البادية نفسها، إلى أن تسلم الفريق أمين الحافظ السلطة قام بإعادة تشكيل هذه القوة ليصبح قوامها الرئيسي من البدو.

لا يمكن الجزم هنا ولا نستطيع الحكم إن كان تفتيت العشائر وفرط عقدها صبَّ في المصلحة الوطنية السورية بمختلف مشاربها (العقائدية/ السياسية) أم كان في نهاية الأمر لصالح المشروع الطائفي (البريطاني/ التفتيتي) رغم أن منهج وأسلوب تفكير العقليتين (الطائفية والقبلية) واحد بخلاف الخلفية التي تشكلت منها كل عقلية (قطيعية). هذا التشتت في موقف عشائر وقبائل البدو كان واضحاً وأليماً منذ الأيام الأولى للثورة السورية على الرغم من محاولات لتوحيد موقفهم ويبدو هنا أن دور قوى المعارضة كان سلبياً منذ تشكيل المجلس الوطني ولم تقوم تلك القوى بما يجب للمّ شملهم، والنتيجة كانت: قبائل أيدت الثورة وأخرى بايعت تنظيم الدولة ومنهم من كان ضمن عباءة النظام أو إدارة الحكم الذاتي (قسد)، أغلب هذه المواقف رسمتها مصالح الشيوخ وارتباطاتهم داخل سوريا وخارجها عدا عن الثارات القديمة التي كلما خبت تجد من يثيرها، وهي مواقف قابلة لتنتقل من جهة لأخرى ويصعب الاعتماد عليها لتحقيق مصلحة الوطن السوري خلال مرحلة الصراع مع النظام الذي أجاد اللعب على وتائرها.

اليوم مع سقوط الأفق المسدود واستلام زمام الأمور من قبل سلطة لديها مشروعها الذي ما يزال ضبابياً غير واضح لأنه لم يقدم مشروع متكامل للدولة في علاقاته الداخلية وبناءه الإداري أولاً وليس الخارجية لأن الأخيرة محكومة بقواها ومصالحها وتؤثر بشكل سلبي على أي مشروع للدولة. كيف على السلطة دمج العشائر في الدولة مع مشكلتهم الأكبر وهي أنهم يتوزعون على كامل مساحة الوطن السوري مع دول الجوار وهو التوزع والانتشار التاريخي الذي يُسقط جميع النظريات العرقية والطائفية في سوريا، ودون أن يستمروا هاجساً مقلقاً لها كما كان لجميع السلطات السابقة بدءاً من العثمانيين”2″. أمرٌ ليس بالسهل، فرغم وحدة العادات والتقاليد والأعراف نجد التناحر المصطنع بين بعضهم البعض ومع الحضريين.

بعض الفلاسفة والسياسيين والمفكرين لحيرتهم وعدم مقدرتهم تقديم إجابات واضحة عن وضع العشائر تستند إلى علوم الاجتماع والاقتصاد، يكتفون بالصور النمطية المتخمة بالكذب والنفاق منها أنهم مجتمع رعوي بدائي لا يتذوق الفن والموسيقى….!، أو أنهم كانوا قطاع طرق وغير ذلك، وهي أفكار ورؤية وإن صحت في زاوية ما لكنها كذبت في مجملها، ولا تخفي في طياتها إلا قطيعية أشمل لأنها مغلفة بالحداثة وهي واحدة من حالات السقوط الإنساني والأخلاقي لا هدف منه إلا مسح وجودهم التاريخي الأقدم والذي ما يزال مستمراً في البلاد الشامية ولكم من الغساسنة والمناذرة عبرة.

___________________________________

“1”_ راجع كتاب تاريخ الثورات السورية_ طبعة خاصة_ 1961_ للباحث أدهم آل جندي.

“2”_ كان واحداً من أهم أهداف السلطنة العثمانية من إحياء الريف الشرقي لمدينتي حمص وحماة هو الوقوف الحضري في وجه غزوات البدو للمدينتين وحماية الخط الحديدي الحجازي مع التوضيح أن غزواتهم لم تكن لمجرد الغزو كما يحلو للبعض تفسيره وإنما لها أسبابها المعيشية. راجع كتاب: ولاية بيروت _ الطبعة الثالثة _ دار لحد خاطر _ بيروت 1978 _ تأليف وتقصّي محمد رفيق بك، محمد بهجت بك. الصفحات 396 _ 397 _ 398.

زر الذهاب إلى الأعلى