فنون وآداب

“تحت الأرض – موسم حار”: دراما السلطة والاحتكار بين التبغ والدم

هل هو مسلسل تشويقي فقط  أم تاريخي و سياسي؟

نوار الماغوط – العربي القديم

يأتي مسلسل تحت الأرض ليحكي قصة صراع دموي على تجارة التبغ في ظل الحكم العثماني، لكنه في جوهره يعكس واقع سوريا خلال حكم عائلة الأسد، حيث تحكمت هذه العائلة القادمة من  واقع مزري في الاقتصاد السوري، تمامًا كما يفعل أبطال المسلسل في سوق التبغ والمواد المخدرة. فالقصة التي تبدو تاريخية تحمل بين طياتها إسقاطات واضحة على هيمنة النظام السوري السابق على الثروات الوطنية، وتحويل الاقتصاد إلى شبكة نفوذ تحميها الدولة وتديرها العائلة الحاكمة.

في المسلسل، تتحكم عائلة الصافي في تجارة التبغ، وتفرض سيطرتها بالقوة، في حين يظهر تاجر جديد يقتحم السوق عبر تجارة الخشخاش، وهو ما يعكس واقع سوريا عندما سيطر محمد مخلوف، خال بشار الأسد، على قطاع التبغ بشكل كامل بغطاء رسمي من النظام. لاحقًا، توسعت العائلة الحاكمة لتشمل تجارة أكثر ربحًا، حيث تحول شقيق الرئيس السوري، ماهر الأسد، إلى أحد أبرز المتورطين في تجارة المخدرات، تمامًا كما يحدث في تحت الأرض، حيث تتحول التجارة من التبغ إلى تجارة أشد فتكًا وأكثر ربحًا، مع حماية مباشرة من السلطة الحاكمة.

إحدى الرسائل الواضحة في تحت الأرض هي أن أي تاجر كبير لا يمكن أن ينجو دون دعم السلطة. في المسلسل، يحظى التجار بحماية الدولة العثمانية، تمامًا كما حصلت عائلة الأسد وشبكاتها الاقتصادية على حماية الدولة. فمنذ السبعينيات، تحولت الدولة السورية إلى غطاء رسمي لنشاطات اقتصادية غير مشروعة، بدءًا من احتكار التبغ وصولًا إلى تحول البلاد إلى مركز عالمي لإنتاج الكبتاغون تحت إدارة مباشرة من أجهزة النظام.

 ورغم النجاح الملحوظ في الأداء التمثيلي لبعض الشخصيات، إلا أن المسلسل أثار العديد من التساؤلات حول اعتماده المفرط على المصادفات، وضعف العنصر التقني، بالإضافة إلى غياب أي تمثيل للحركات الوطنية التي كانت فاعلة في تلك الحقبة الزمنية.

تدور أحداث تحت الأرض داخل عائلة بيت الصافي، وهي عائلة دمشقية قوية تتحكم بتجارة التبغ بقبضة من حديد، مستخدمة نفوذها في السوق للقضاء على أي منافس يحاول الوقوف في وجهها. يقود العائلة زعيم صارم (فايز قزق)، الذي لا يتردد في استخدام القوة والتهديد لضمان استمرار احتكاره للسوق.

لكن الأوضاع تنقلب رأسًا على عقب مع ظهور تاجر جديد (مكسيم خليل)، يدخل المنافسة ليس فقط بدافع الطموح التجاري، وإنما بدوافع انتقام شخصية تتعلق بماضيه مع بيت الصافي، مما يحول الصراع بينهما إلى معركة مصيرية تتجاوز المال والسلطة. وبينما يشتد الصراع، يكشف المسلسل عن تورط السلطات العثمانية في دعم التجار الكبار، مشيرًا إلى أن لا تاجر كبير يمكن أن ينجح دون غطاء من السلطة الحاكمة.

ورغم الحبكة المشوقة، فإن المسلسل يعتمد بشكل مفرط على المصادفات، إذ تتكرر لقاءات غير متوقعة وتتحرك الأحداث بناءً على أحداث غير منطقية في بعض الأحيان، مما يقلل من واقعية السرد ويجعل تطور القصة يبدو مفتعلًا في بعض المواقف.

 أحد أبرز الملاحظات عليه كان غيابه التام عن تناول أي دور للشخصيات الوطنية، سواء على المستوى السياسي أو الثقافي، رغم أن تلك الفترة الزمنية كانت غنية بالحراك الوطني والمقاومة الفكرية ضد الاستبداد العثماني. هذا الفراغ جعل تحت الأرض يبدو وكأنه يؤرخ فقط لصراع التجار والسلطة، دون أن يقدم صورة شاملة للمجتمع السوري في ذلك الوقت.

أحد أقوى عناصر المسلسل كان الأداء التمثيلي المحترف الذي قدمه كل من فايز قزق ومكسيم خليل، حيث تمكن الأول من تجسيد شخصية زعيم عائلة الصافي بسلطة مهيبة وحضور طاغٍ، مستخدمًا نبرة صوته القوية وتعابيره الحادة لرسم ملامح الرجل الذي لا يقبل التحدي ولا يتسامح مع من يجرؤ على منافسته.

أما مكسيم خليل، فقد قدم شخصية التاجر المنافس بحرفية عالية، متقمصًا شخصية الرجل الذي لا يخشى المجازفة، والذي يسعى لتوسيع نفوذه بأي وسيلة ممكنة، حتى لو تطلب ذلك القتل والخداع. تميّز أداؤه بالسلاسة والقدرة على التنقل بين مشاعر الطموح والخوف، مما جعل شخصيته معقدة ومتعددة الأبعاد، بدلاً من أن تكون مجرد نقيض لزعيم عائلة الصافي.

على الرغم من نجاح المسلسل في تقديم حبكة مشوقة، إلا أنه وقع في فخ التركيز المطلق على الصراع الاقتصادي بين التجار، متجاهلًا بشكل كامل أي دور للحركات الوطنية أو الشخصيات الثقافية التي كانت جزءًا أساسيًا من المشهد السوري في تلك الحقبة. فمن المعروف أن دمشق في أواخر الحكم العثماني كانت تشهد نشاطًا فكريًا وسياسيًا واسعًا، وكانت هناك شخصيات بارزة تناهض الاستبداد وتطالب بالإصلاحات، سواء من خلال الصحافة أو النشاط السياسي السري.

الاضاءة والتصوير: إخفاق تقني في دعم الحبكة

على الرغم من قوة القصة نسبيا والأداء التمثيلي، إلا أن العمل عانى من عدة مشكلات تقنية، أبرزها الإضاءة السيئة التي لم تخدم الأجواء الدرامية كما يجب، حيث افتقدت بعض المشاهد للبعد البصري الذي كان يمكن أن يضيف مزيدًا من التوتر والتشويق. كذلك، كان هناك محدودية في زوايا الكاميرا، حيث اعتمد التصوير بشكل أساسي على اللقطات القريبة (Close-ups) بين الشخصيات، مما جعل المشاهد تبدو محصورة في نطاق ضيق، وأفقد العمل الإحساس بالفضاء والمكان، وهو عنصر كان من الممكن استغلاله بشكل أفضل لتعزيز الإحساس بالزمن التاريخي للمسلسل.

أما الديكور، فقد بدا متواضعًا في بعض المشاهد، حيث غاب عنه الإحساس بالفخامة أو التفاصيل الدقيقة التي تعكس أجواء دمشق العثمانية بشكل مقنع، مما أثر سلبًا على مصداقية العالم البصري الذي يحاول المسلسل تقديمه

غياب الإيحاءات البصرية والموسيقى التصويرية

من الملاحظ أن المخرج اعتمد بشكل كامل على الحوارات بين الشخصيات في إيصال الحبكة، بينما غابت الإيحاءات البصرية التي كان يمكن أن تضيف بعدًا أعمق للأحداث. فلم يتم استخدام الإضاءة أو الرموز البصرية أو حتى الإيماءات غير اللفظية لخلق تأثير درامي أعمق، بل كان هناك اعتماد مفرط على الحوار المباشر.

كذلك، فإن الموسيقى التصويرية لم تلعب دورًا فعالًا في تعزيز اللحظات الدرامية، حيث كان يمكن استغلالها بشكل أكبر لإضفاء المزيد من التوتر أو الإثارة، خاصة في المشاهد التي تعكس الصراعات الداخلية للشخصيات. غياب التوظيف القوي للموسيقى جعل بعض المشاهد تبدو أقل تأثيرًا مما كان يمكن أن تكون عليه

نجاح درامي مع تحفظات فكرية وتقنية

نجح تحت الأرض في تقديم دراما مشوقة تجمع بين الصراع التجاري، النفوذ، والرغبة في الانتقام، مدعومة بأداء تمثيلي قوي من فايز قزق ومكسيم خليل. لكن المسلسل وقع في عدة نقاط ضعف، أبرزها الاعتماد الكبير على المصادفات، غياب البعد الوطني، بالإضافة إلى ضعف العناصر التقنية من حيث الإضاءة، التصوير، والموسيقى التصويرية.

يبقى السؤال الأهم: هل كان غياب الشخصيات الوطنية وضعف العنصر البصري مجرد سهو فني،  أم خوف من المقاربة المباشرة للواقع السياسي  في ظل حكم عائلة الأسد،. أم أنه يعكس رؤية ضبابية  لكيفية تقديم التاريخ في الدراما العربية؟

ام أن صناع العمل أرادوا تقديم دراما تدور حول المال والنفوذ، دون التطرق إلى الأبعاد السياسية الأخرى، ربما لتجنب إثارة الجدل أو لضمان شراء المسلسل من المحطات فأعمال التي تركز على الجريمة والصراع المالي عادة ما تحقق مشاهدات عالية، وربما رأى القائمون على المسلسل أن إدخال البعد الوطني قد يقلل من جاذبية الحبكة لدى الجمهور العريض. الجواب متروك للجمهور، الذي سيبقى يقرأ ما بين السطور، سواء في الدراما أو في الواقع.

من الممكن القول إن تحت الأرض قدم صورة جزئية عن تلك الفترة الزمنية، حيث ركز على الصراع بين التجار والسلطة، لكنه أغفل جوانب أخرى لا تقل أهمية، مثل الحراك الشعبي والثقافي. هذا الاختزال جعل المسلسل أقرب إلى دراما الجريمة المنظمة منه إلى عمل تاريخي متكامل.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى