هل يقبل أحمد الشرع بشريك علماني في حكم سوريا؟
إن الاستقلالية السياسية هي الأساس لبناء الثقة لدى الشعب السوري، الذي يعاني من تدخلات خارجية مستمرة منذ بداية الثورة السورية
نوار الماغوط- العربي القديم
في ظل الواقع السوري المعقد والسيطرة الراهنة لهيئة تحرير الشام على مساحات واسعة من البلاد، يظل التساؤل المطروح حول طبيعة الحكم المستقبلي لسوريا، ومدى استيعابه للتعددية الفكرية والدينية. سؤال محوري يُطرح اليوم على الأستاذ أحمد الشرع، قائد الهيئة: هل يمكن أن يكون شريكك في الحكم شخصًا علمانيًا يؤمن بفصل الدين عن الدولة؟ وهل ترى أن العلمانية يمكن أن تكون جزءاً من مشروع بناء سوريا المستقبل؟
إن هذا السؤال لا يقتصر على الجدل النظري حول العلمانية أو التعددية، بل يتجاوز ذلك ليختبر مدى قدرة القيادة السورية الجديدة على تبني رؤى شاملة، تتجاوز الأيديولوجيات الضيقة وتعمل على بناء نظام سياسي مستقر يحقق العدالة لجميع السوريين، بغض النظر عن انتماءاتهم.
لطالما كان مفهوم العلمانية في سوريا مرتبطًا بتجربة مأساوية، حيث استخدمه النظام السابق كغطاء لاستبداد سلطوي طائفي. في ظل حكم حافظ الاسد وابنه بشار ، تم استخدام العلمانية لتبرير سيطرة السلطة المركزية على جميع مفاصل الدولة، لكن دون أن تحقق العدالة أو تكفل الحقوق. بدلاً من أن يكون فصل الدين عن الدولة وسيلة لضمان حيادية الدولة في مواجهة جميع الأديان، تحولت العلمانية إلى أداة للهيمنة السياسية والتغطية على الفساد والاستبداد.
لكن هذا لا يعني أن العلمانية كمفهوم سياسي هي عائق أمام بناء سوريا المستقبل. على العكس، العلمانية الحقيقية هي التي تضمن حيادية الدولة في ما يتعلق بالأديان والمعتقدات، ولا تسمح باستخدام الدين كأداة للسيطرة أو التفريق بين المواطنين. هي أن تبقى الدولة محايدة، تحترم حرية الأفراد في ممارسة عقائدهم بينما تضمن أن تكون مؤسسات الدولة موجهة لخدمة مصلحة الجميع بغض النظر عن خلفياتهم الدينية أو الفكرية.
في هذا السياق، تقدم التجارب الناجحة في دول إسلامية أخرى، مثل ماليزيا وتركيا، دروسًا ثمينة حول كيفية الجمع بين احترام الدين والتراث الثقافي من جهة، وتبني مبادئ العلمانية الحقيقية التي تضمن حيادية الدولة وعدالتها من جهة أخرى.
التجربة الماليزية: نموذج التنوع والازدهار
تُعد ماليزيا واحدة من أكثر الدول نجاحًا في العالم الإسلامي في تحقيق توازن دقيق بين الدين والدولة، حيث استطاعت أن تُظهر كيف يمكن لبلد متعدد الأعراق والأديان أن يتحول إلى دولة حديثة ومزدهرة دون أن يتخلى عن هويته الدينية والثقافية. ماليزيا، التي يتألف شعبها من أغلبية مسلمة وأقليات بوذية وهندوسية ومسيحية، استطاعت أن تبني نظامًا سياسيًا يحترم هذا التنوع ويعمل على تحويله إلى مصدر قوة، بدلاً من أن يكون سببًا للانقسام.
في ماليزيا، لا يعني احترام الدين فرضه على كل مكونات المجتمع، بل تم تطبيق نظام يضمن حيادية الدولة تجاه الأديان المختلفة، مع الحفاظ على مكانة الدين الإسلامي كدين رسمي للبلاد. هذا التوازن أتاح للدولة أن تركز على التنمية الاقتصادية والاجتماعية، مما حولها إلى نموذج ناجح في جنوب شرق آسيا. وقد ساعدت هذه الحيادية في تعزيز المساواة بين المواطنين، وإتاحة الفرصة للجميع للمشاركة في بناء الدولة دون تمييز على أساس الدين أو العرق.
الأهم من ذلك، أن ماليزيا تبنت سياسات اقتصادية متقدمة ركزت على التعليم والصناعة والتكنولوجيا، مما ساهم في تحويلها من دولة زراعية فقيرة إلى اقتصاد مزدهر ومتنوع. واليوم، تُعتبر ماليزيا مثالًا حيًا على إمكانية التوفيق بين الدين والدولة، حيث يمكن للدولة أن تحترم الهوية الإسلامية لشعبها مع ضمان الحيادية تجاه الأقليات وحمايتها.
التجربة التركية: الحداثة والإرث الديني
على الجانب الآخر، تُعتبر تركيا نموذجاً آخر للدول الإسلامية التي نجحت في تحقيق توازن بين التراث الإسلامي والتقدم السياسي والاقتصادي. بعد تأسيس الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال أتاتورك، تم تطبيق نظام علماني صارم، إلا أن هذا النظام شهد تطورًا كبيرًا خلال العقود الأخيرة، حيث تم تخفيف التوتر بين الدين والدولة، مما أتاح المجال لبروز قوى سياسية تجمع بين الهوية الدينية والمبادئ العلمانية.
تركيا اليوم تُعد واحدة من الدول القليلة التي استطاعت أن تبني نظامًا ديمقراطيًا يدمج بين مبادئ الحداثة واحترام الدين. تحت قيادة حزب العدالة والتنمية، شهدت تركيا تطورات اقتصادية كبيرة، حيث اعتمدت على سياسات اقتصادية ليبرالية ركزت على دعم الطبقة الوسطى وتحفيز الاستثمار، مما حولها إلى قوة إقليمية رئيسية. الأهم من ذلك، أن هذا التحول تم دون التخلي عن القيم الثقافية والدينية التي تشكل جزءًا من هوية الشعب التركي.
على الصعيد السياسي، نجحت تركيا في استيعاب التنوع الديني والثقافي داخل حدودها، حيث وضعت إطارًا قانونيًا يحمي الأقليات ويضمن حقوقها. في الوقت نفسه، استطاعت الدولة أن تضمن حيادية المؤسسات الرسمية، مما ساهم في خلق بيئة مستقرة سمحت بتحقيق نمو اقتصادي واستقرار سياسي نسبي.
دروس التجربتين لسوريا المستقبل
إن التجربتين الماليزية والتركية تقدمان دروساً هامة لسوريا التي تسعى إلى بناء مستقبلها بعد عقد من الصراع والدمار. أولاً، تؤكد هذه النماذج أن احترام الدين لا يعني فرضه على كل مكونات المجتمع، بل يمكن للدولة أن تبني نظامًا سياسيًا يقوم على الحيادية والعدالة دون أن يتخلى عن قيمه الدينية. ثانيًا، تظهر هذه التجارب أهمية التركيز على التنمية الاقتصادية والاجتماعية كأولوية وطنية، حيث أن بناء دولة مزدهرة يتطلب تجاوز الخلافات الفكرية والدينية لصالح تحقيق رفاهية المواطن.
سوريا بلد يتميز بتنوعه الديني والثقافي، تماماً كما هو الحال في ماليزيا وتركيا. ولكن لتحقيق الاستقرار في المستقبل، يجب أن تتبنى القيادة السورية نظامًا يضمن تمثيل جميع المكونات، دون إقصاء أو تهميش. يمكن للعلمانية الحقيقية أن تلعب دورًا محوريًا في هذا السياق، حيث يمكن أن تضمن حيادية الدولة وعدالتها تجاه جميع مواطنيها، مع احترام التراث الديني والثقافي الذي يشكل جزءًا من هوية الشعب السوري.
لكن هنا يبرز التحدي الكبير في حال اتخاذ قرار بقبول الفكر العلماني في سوريا المستقبل. فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: من هو الشخص الذي يمكن أن يكون شريكاً في هذا المشروع؟ للأسف، بعد الاطلاع على الشخصيات المتاحة، نجد أن العديد من المرشحين المحتملين مرتبطين بشكل أو بآخر بجهات أجنبية أو عربية، أو حتى كانوا مرتبطين بالنظام السابق في سوريا، سواء عبر مؤسسات المعارضة و أبرزها فضاءات ميديا أو من خلال العمل في الائتلاف الوطني السوري أو المنصات السياسية الأخرى. هذه الروابط قد تثير شكوكًا حول استقلالية هذه الشخصيات ومدى قدرتها على خدمة مصلحة الشعب السوري دون تأثيرات خارجية.
من هنا، يصبح من الضروري أن يكون المرشح الذي يتم التفكير فيه لشراكة سياسية حقيقية في بناء سوريا المستقبل غير مرتبط بأي جهة أجنبية أو عربية، أو أي جهة خارجية قد تفرض أجندات خاصة. يجب أن يكون هذا الشخص مستقلًا تمامًا، ولم يرتبط في العقد الماضي بأي جهة كانت، سواء من مؤسسات المعارضة التقليدية أو المنصات الأخرى التي كانت تعمل تحت دعم وتمويل خارجي. إن هذه الاستقلالية السياسية هي الأساس لبناء الثقة لدى الشعب السوري، الذي يعاني من تدخلات خارجية مستمرة منذ بداية الثورة السورية.
إذا كان مشروع بناء سوريا المستقبل يعتمد على التعددية والشراكة بين جميع فئات المجتمع السوري، فإن ذلك يتطلب قيادة قادرة على استيعاب هذا التنوع الفكري والسياسي دون الانصياع للضغوطات الخارجية. يجب أن يكون القائد أو الشريك في الحكم من داخل سوريا، قادرًا على التفاعل مع الواقع الوطني بعيدًا عن أي ارتباطات أجنبية أو طائفية قد تؤثر على القرار السياسي الوطني.
من هذا المنطلق، السؤال الذي يُطرح على الأستاذ أحمد الشرع لا يتعلق فقط بقبول الفكر العلماني كشريك في الحكم، بل أيضاً بقدرته على استيعاب نموذج يمكن أن يستلهم من التجارب الناجحة في دول إسلامية أخرى، فهل يمكن للقيادة السورية أن تفتح الباب أمام شراكة سياسية تُعزز التعددية وتخلق بيئة توازن بين التراث والمستقبل؟ الإجابة على هذا السؤال قد تكون مفتاحاً لرؤية سوريا الجديدة التي تحتاج إلى نموذج سياسي جديد يقوم على الشراكة الحقيقية بين جميع مكونات الشعب.
في النهاية
إذا أرادت سوريا أن تتجاوز الماضي وتبني مستقبلًا يعكس تطلعات شعبها، فإنها تحتاج إلى قيادة شجاعة تمتلك رؤية وطنية مستقلة، تستفيد من دروس التجارب الدولية، وتؤمن بأن العدالة والمساواة هما حجر الزاوية لبناء دولة مستقرة ومزدهرة.