الظاهرة البكداشــية:عائلة تحكم حزباً سياسياً لمدة تسعة عقود
أحمد برقاوي- العربي القديم
شهد التاريخ الحديث، وبخاصة منذ الربع الأول من القرن العشرين، ظاهرة انتظمت العالم كله، ألا وهي ظاهرة الشيوعية والاشتراكية بأحزابها وحركاتها ونقاباتها ومنظريها ومثقفيها، وهي ظاهرة لا مثيل لها إلا الظاهرة الدينية، بل قل لم تكن الشيوعية إلا ديناً أرضياً، يعد الناس بجنة تتحقق على هذه الأرض، على خلاف الجنة الدينية الموعودة في السماء.
انطوت الحركات الشيوعية كلها دون استثناء، مع بعض الاختلافات البسيطة، على أنبياء ثلاثة: ماركس وإنجلز ولينين، وظهر نبي آخر لجماعة تنتمي للشيوعية هو تروتسكي.
وكان لهؤلاء الأنبياء خلفاء يحافظون على الحقيقة المطلقة التي تطرحها الشيوعية، وهم في الغالب الأمناء العامون، ستالين وخلفاؤه، ماوتسي وخلفاؤه وهكذا، وكان من هؤلاء الخلفاء في عالمنا العربي خالد بكداش.
وتجب الإشارة قبل تناول الظاهرة البكداشية إلى مسألة أخلاقية مهمة، وهي جواب عن سؤال: لماذا يختار الإنسان أن يكون شيوعياً؟
كل إنسان اختار بإرادته الحرة أن يكون شيوعياً، هو من حيث المبدأ شخص أخلاقي، يكره التفاوت الطبقي والاضطهاد الطبقي، ومع الفقراء أن يعيشوا سعداء دون فاقة الخ. وكثير من المفكرين، بمعزل عن فلسفة ماركس، ومنهجه الجدلي في فهم الواقع والتاريخ البشري، ينتمون إلى هذا الحس الأخلاقي: كمحمود أمين العالم، إلياس مرقص، عبد الخالق محجوب، جورج لوكاتش، التوسر، هنري لفوفير، وكثيرين مثلهم.
لكن تطور ظاهرة الأحزاب الشيوعية، وبخاصة بعد ظهور ستالين على مسرح الحياة، وأنماط حكمها للبلدان، ومركزيتها، قد أفسد هذا الجانب الأخلاقي الذي ينطوي بالأساس على جانب طوباوي، فلقد اغتالت السلطة الحاكمة للبلدان الشيوعية والأحزاب التابعة للمركز هذا الجانب الطوباوي، وأصبحت الستالينية نموذجاً فذاً للانحطاط الأخلاقي العنفي.
وإلى الستالينية التي انفض عنها مفكرو الماركسية ينتمي خالد بكداش وورثته، وصار لدينا ظاهرة هي البكداشية.
ما هي البكداشية؟
أنظر إلى البكداشية بوصفها ظاهرة أيديولوجية وذهنية بطرياركية سلوكية عنفية، أسست لها ممارسة الأمين العام للحزب الشيوعي السوري خالد بكداش الذي بقي في هذا المنصب منذ توليه إياه عام 1933، حين كان الحزب الشيوعي السوري – اللبناني، وحتى وفاته عام 1995، حين صار الحزب البكداشي واحداً من عدة أحزاب بفعل الانقسامات التي كان هو سببها الأول، وهي فترة لم يُقيض لأحد في تاريخ البشرية أن يقضيها في منصب سياسي على ما أعرف. واستمرت البكداشية بعد وفاته بفضل زوجته التي ورثت أمانة حزبه العامة، ثم عبر الابن عمار الذي ورث أمه في هذا المنصب. أي إن خالد وأسرته قد حكموا حزباً شيوعياً سورياً، حتى الآن واحداً وتسعين عاماً، وإذا أطال الزمن بعمر عمار بكداش، فإنه سيمضي قرناً ونيف على حكم البكادشة لهذا الحزب.
لقد ولّد استمرار هذا الحكم الطويل لعائلة واحدة، ولحكم حزب سياسي سؤالاً وجيهاً: كيف تأتّى أن شخصوصاً أممية من حيث الأيديولوجيا، ومعادية للنزعة القومية وما شابهها من نزعات، أن تحكم بعقلية عائلة حزباً سياسياً لمدة تسعة عقود، ومازالت تحكمه إلى الآن؟
ليس هناك إلا جواب واحد، وهو: إن الأيديولوجيا لم تستطع أن تحرر الذهنية التي ترى الحزب ملكية فردية قابلة للتوارث في حالة لا تسمح بمثل هذا الأمر، فالحزب ظاهرة سياسية- مدنية وليست مهنة قابلة للانتقال من الأب إلى الابن.
وبهذا المعنى، إن البكداشية ليست سوى صورة من صور التخلف العقلي عن روح روح العصر.
من مناضل أيديولوجي إلى طاغية ستاليني
لقد أسس خالد بكداش للظاهرة البكداشية المستمرة، فلقد انتقل خالد من المناضل الأيديولوجي المؤمن بالشيوعية، إلى الطاغية الستاليني بوصفه الأمين العام إلى الأب الشرقي.
ليس لخالد بكداش أية إضافة تُذكر للإرث النظري الماركسي العربي أو العالمي، وخطاباته هي مرافعات سياسية، لا تقوى على البقاء ولو لفترة صغيرة، وكتابه عن حي بن يقظان كتاب تعليمي متوسط، بل إن معظم المبدعين الشيوعيين السوريين قد تركوا حزب خالد بكداش بسبب البكداشية، وكان من أبرزهم ولا شك إلياس مرقص. فانعكست البكداشية ذهنية وسلوكية على كل ما تبقى من جثة هذا الحزب، الذي شيعته الثورة الشعبية السورية بمأتم غير حافل .
لقد مات هذا الحزب بالأصل منذ دخوله عضواً في الجبهة التقدمية الأسدية، وظلت جثته باقية في مقرات، ويافطات وأعلام واحتفالات وأعضاء في مجلس الشعب ووزراء.
لقد تحول الحزب من حزب أيديولوجي شعبي في الأربعينات وحتى الستينات إلى حزب سلطة وحزب عائلة.
قامت البكداشية، واستمرت على عدة مبادئ:
1- مبدأ عبادة الفرد والنزعة التسلطية: وهذا أمر يعرفه القاصي والداني. فلقد كان خالد بكداش الصورة المشوهة لستالين، فعاش حالة فصامية طوال عمره، ففي الوقت الذي كان فيه ستالين يحكم أكبر إمبراطورية على وجه الأرض بسلوك الدكتاتور، ومبدأ عبادة الفرد المطلق، كان بكداش يعبد ستالين، ويتقمصه في سلوكه بحكم حزب لم يكن حاكماً، ويمارس على أفراده القسوة غير المحدودة. لم يتعلق الأمر بالمواقف السياسية للحزب التي كان يقررها بكداش وحده، وهي معروفة، بل تعلق الأمر بالتدخل في الحياة اليومية لأعضاء الحزب. لقد روى لي الصديق العزيز الراحل المحامي، والشاعر الرقيق عدنان قرشولي القصة الآتية رداً على سؤالي له: لماذا تأخرت يا صديقي عدنان في كتابة هذا الشعر الجميل، فقال: في الخمسينات بُلِّغت أن الرفيق خالد بكداش يستدعيك لمكتبه غداً، والحق “بأني شعرت بالرهبة، فمقابلة الرفيق خالد ليس أمراً عادياً. دخلت على الرفيق خالد، وكان جالساً وراء الطاولة ومطرقاً، ولم ينظر إلى وجهي، ومضت ثوانٍ، وهو صامت، وعيناه تنظران إلى أسفل، وأنا واقف أنتظر، وبعد ثوانٍ، قال لي دون أن ينظر إلي أبداً: عدنان الشاعر مو أنت، الشاعر شوقي، لا عاد تكتب شعر، فأجبته حاضر رفيق، وخرجت وكففت عن كتابة الشعر حتى خروجي من الحزب. وحدثني الصديق عبد الرزاق عيد عن دانيال نعمة أنه قال: “بلغنا أن رئيف خوري مريض في المشفى الطلياني في دمشق، وكان من الواجب أن نعيده في المشفى، ولكن الرفيق خالد كان قد وقف موقفاً عدائياً من رئيف، فكان من الضروري أن نأخذ موافقته على الزيارة، ولكن احترنا من منّا أنا والآخرين سيطلب السماح من بكداش، وأخيراً دخلنا عليه وسألناه الموافقة، وهو كالعادة مطرق، فهز برأسه هزة واحدة وخرجنا دون أن ندري، أهي هزة موافقة، أم هزة رفض؟ وأخيراً استقر الرأي أن نحسبها موافقة”. تؤكد هاتان الواقعتان، وغيرها من عشرات الوقائع التي رواها لي نايف بلوز على سلوك المتشبه بستالين في كل أحوال الحزب الخاصة والعامة. لكن الورثة الذين جاؤوا في عصر آخر كانوا أشباه الشبيه، ولم يتوافروا على صفات الأب البطرياركي فكانوا مسخرة المسخرة.
2- الدوغمائية: كان بكداش شخصاً دوغمائياً بامتياز، يعرف ترسيمات لينين العامة حول الإمبريالية والصراع الطبقي والدولة، ويتبنى الستالينية في المادية التاريخية، وينظر إلى الاتحاد السوفييتي مصدراً للحقيقة المطلقة، ويردد كل ما يصدر عن “الأصدقاء الكبار وعن الأصدقاء البلغار أحياناً”، كما كان يسميهم، ولأنه على هذا النحو لم يطق أن يرى في الحزب أي رفيق يفكر، ولم يسمح لأي صوت جديد أن يصدح في كهفه المظلم. لقد وسمت هذه الدوغمائية تاريخ علاقاته مع كل جديد، وصارت البكداشية تساوي اللينينية – الستالينية – السوفيتية.
أربع قضايا لم تزحزح موقف بكداش عن مواقفه في المؤتمر الثالث عام 1969، الذي عُقد بعد ربع قرن من المؤتمر الثاني. عبادة الفرد، دمقرطة الحزب، المسألة القومية، القضية الفلسطينية، وضحى بوحدة الحزب على أن يتحرر من دوغمائيته. فطرد الحزب منه تقريباً مستخدماً كل الاتهامات الستالينية: الارتداد عن مبادئ اللينينية، التحريفية، الانتهازية اليمينية والانتهازية اليسارية، أجل كان يردد اتهامات ستالين بحذافيرها والتي بناءً عليها أعدم ستالين زنيفيف وبخارين وآخرين، ولأن البكداشية ليس لديها دولة ومحاكم ومنصات إعدام، استخدمت وسائل الطرد والتشهير، والتخلص من النخبة التي تفكر. لقد أصبحت البكداشية جماعة متخلفة عقلياً وأخلاقياً، وظهر هذا في الموقف من الثورة السلمية السورية منذ انطلاقتها، ونظرت البكداشية إليها على أنها مؤامرة إمبريالية رجعية ضد سوريا كبلد، وصورت النظام الحاكم الذي كوّن رأسمالية فاسدة متوحشة، ونظاماً قمعياً صارخاً في قمعيته، على أنه نظام معادٍ للإمبريالية، وليس هذا فحسب، بل أسس ميليشيا تقاتل إلى جانب الزينبيين والفاطميين، وأتباع حسن نصرالله والإيرانيين، مع أن حزب الطبقة العاملة – نظرياً لا يمكن إلا أن يدافع عن المظلومين والفقراء، وليس هذا فحسب، بل مازال “الرفاق” البكداشيون يتعاملون مع روسيا الرأسمالية المفيوزية على أنها الاتحاد السوفييتي المعادي للإمبريالية.
3-الوعي اللاهوتي: والحق إن البكداشية مثلها مثل أي حركة أصولية دينية نائمة في ماضٍ سعيد، لا يميزها عن الأصولية الدينية سوى أن مقدسها دنيوي قديم، وقديسها يدعى خالد بكداش، ومازلت أذكر بأني دعيت مرة إلى ندوة حول البيان الشيوعي، وكان ذلك بعد موت خالد بكداش، في مبنى نقابات العمال، واستندت إلى إحدى مقدمات البيان التي كتبها إنجلز بعد سبعة عشر عاماً على إعلانه، والذي قال فيها: إن البيان قد شاخ في أكثر أطاريحه بعد سبعة عشر عاماً، وأضفتُ معلقاً على قول إنجلز قائلاً : إذا كان البيان الشيوعي قد شاخ الجزء الأكبر منه بعد سبعة عشر عاماً، فما الذي تبقى منه الآن، لقد مات البيان الشيوعي، وعلى الفقراء أن يخلقوا شبحاً جديداً يخيف أعداءهم. فهب البكداشيون وراحوا يهاجمون قولي، وصرخ أحدهم، البيان كبرادات الحافظ “أربعون عاماً نزداد شباباً، ونحن نقول لك مئة وخمسون عاماً نزداد شباباً”، بهذه الذهنية يفكر البكداشيون.
4-السبات التاريخي: يشهد التاريخ الآن موت الأحزاب التي تقوم على أيديولوجيات كلية، دينية كانت أم دنيوية ذات ماهية الهوتيل، فضلاً عن أن هذه الأيديولوجيات لم تعد سوى أداة تبرير للبقاء في السلطة، أو للوصول إلى السلطة وامتلاكها، أو الحصول على فضلات من سلطة حاكمة.
ولما كانت البكداشية في صورة حزب سياسي لا يمتلك سلطة حاكمة، وغير قادر لا الآن، ولا في ما بعد على امتلاك سلطة، فإنه تحول إلى سائل لفضلات سلطة، وحين يدرك صاحب السلطة الحاكمة، بأنه لم يعد لهذا الحزب أي وظيفة يقوم بها لخدمته، فإنه سيمنع عنه هذه الفضلات.
والخلاصة: إن البكداشية اليوم جثة تصطف إلى جانب الجثث المعادية للتاريخ، معادية لأهداف الناس في الحرية والكرامة والإنصاف والديمقراطية والعلمانية والسعادة والانتماء الوطني.
_________________________________
من مقالات العدد الرابع عشر من (العربي القديم) الخاص بالأسر السياسية في التاريخ السوري – آب / أغسطس 2024