أرشيف المجلة الشهرية

الأب “باولو دالوليو”: راهب الثورة وناسك المسلمين

رجل سلام، سعى بين أهل بلاد غارقة في القدم كمهد للحضارات

د. فادي أوطه باشي – العربي القديم

في العام 2011 اشتعلت ثورة لشعب عريق مطالبة بالحرية والكرامة، بعد عقود من القهر والفساد والمظالم، وبدأت الدماء تنزف والفتن تتصاعد من كل حدب وصوب، مع تآمر الذئاب على تلك الثورة اليتيمة.

كان هناك رجل سلام، سعى بين أهل بلاد غارقة في القدم كمهد للحضارات، كانت البلاد تُدعى سورية، وكان  ذلك الرجل يُدعى الأب “باولو دالوليو”، الذي قدم إليها منذ أكثر من ثلاثين عاماً، فكان كما الياسمين الذي اختار من سورية وطناً له، لينشر مع لونه الأبيض عبق عشقه للسلام والحرية.

عندما أتحدث، أو أكتب عن الثورة السورية وأبطالها وشهدائها، فلديّ ما يكفي من العابرين، لأصنع من هذا النّص ملحمة شعرية، و لديّ ما يكفي من الحكايات الأسطورية التي كُتبت بدماء هؤلاء الشهداء.

ولديّ كذلك ما يكفي من الحزن، لأصنع منه خبزاً وأعطيه للمارّة، وأدعو بعض الأحرار الذين لن يأتوا، فأجلس بمفردي في تلك الزاوية الحزينة، أبحث عن صورهم بين التراب، فأذهب إلى الممرّ الطّويل، كمَن يتجه نحو عاصفة ثلجيّة، لأخبِّئ برودي هناك، فتتراءى أمامي صور شهدائنا الأبطال وضحكاتهم، فأنظر إلى السماء لأرى علم الحرية، وقد بدأ يرفرف فوق ربوع الوطن والوجوه مستبشرة ضاحكة، لكن هذه الضحكة ليست فرحاً فقط، إنّها كذلك أصوات العالقين داخلنا، ممّن مرّوا على درب الحرية، وما بقي منهم إلا أصواتهم وصورهم العالقة في ضمير هذا الوطن.

عندها أقف خجلاً واحتراماً، لأقول بأن لديّ ما يكفي كذلك من تلك الصور والأصوات الجميلة، لأخترع منها “صولا” خاصة بسورية الحرة، لننشد بصوتهم وصوتنا نشيد الحرية والنصر، حرية ونصر سورية العظيمة.

من بين تلك الصور الجميلة، صورة لشخصية فريدة لرجل، استحق أن يكون سورياً أصيلاً أكثر من بعض مَن ولدوا فيها، حيث عاش معظم عمره فيها، وزرع أرضها حباً وكرامة، ثم مدافعاً فذّاً عن ثورتها وحريتها. تلك الشخصية الفريدة، هي الأب “باولو دالوليو”، كاهن يسوعي من مواليد 17 نوفمبر 1954، إيطالي الأصل، وناشط سلام، تم نفيه من سورية عام 2012، من قِبل حكومة الأسد البائد، بسبب لقائه مع أحرار سورية، وانتقاد أفعال النظام البائد، أثناء الثورة السورية، وتأييده لحراك الشعب السوري ضد القمع والعنف.

كان الأب “باولو دالوليو” (Paolo dall’Oglio)، قد جاء إلى سورية في صيف العام 1982، لزيارة دير قديم في منطقة القلمون، بالقرب من ريف دمشق، يُدعى دير “مار موسى الحبشي”، لقضاء بضعة أيام في التأمل في ذلك المكان المقدس، والذي يعود بناؤه إلى القرن السادس الميلادي، وكان قد تم هجره منذ القرن التاسع عشر الميلادي، لكنه قرر البقاء فيه، ليبدأ بعملية ترميمه عام 1984، وقد تطوع معه بعض الشباب، للمساعدة في إصلاح وترميم الأجزاء المتهدمة من الدير، وإخلاء المكان من رعاة الماعز، وإعادة استثماره كمركز لحوار الأديان، واستمر الترميم حتى صيف عام 1991، حيث بدأ الأب “باولو” بإعادة الحياة الرهبانية إلى المكان، وخدم الدير لثلاثة عقود من الزمن.

انضم الأب “باولو دالوليو”، عام 1975 إلى المجمع اليسوعي، وقضى فترة ترسيمه في إيطاليا، قبل التحاقه بالجامعة لدراسة اللغة العربية في مدينة بيروت في لبنان، والدراسات الإسلامية في دمشق.

عام 1984، تم ترسيم الأب “باولو دالوليو” كاهناً في الكنيسة السريانية الكاثوليكية، وفي العام نفسه، حصل على درجة جامعية في اللغة العربية، والدراسات الإسلامية من جامعة “نابلس الشرقية”، وأخرى في اللاهوت الكاثوليكي من جامعة “جريجوريان البابوية “، وحصل في عام 1986 على درجة الماجستير في علم التبشير من جامعة “جريجوريان البابوية”.

كما حصل منها كذلك عام 1989 على درجة الدكتوراه، وقدم رسالة الدكتوراه بعنوان “الأمل في الإسلام”.

في عام 1992، أسس الأب باولو “مجتمع الخليل” (الاسم الثنائي القرآني والإنجيلي للنبي إبراهيم)، كمجمع مسكوني ورهباني، وخصصه للحوار الإسلامي-المسيحي، وأخذ مكانه في دير مار موسى الحبشي.

وعند انطلاق الثورة السورية، كتب الأب “باولو دالوليو” في العام 2011 مقالة، تطالب بالانتقال الديموقراطي السلمي في سورية، بناءً على ما سمّاه “الديموقراطية بالإجماع”. وقابل حينها ناشطين من المعارضة، وشارك في جنازة صانع الأفلام المسيحي ذي ال 28 عاماً “باسل شحادة”، الذي كان قد قُتل في حمص في قصف، من قبل عصابات النظام البائد، كما شارك الأب باولو في حماية الثوار وإسعافهم، وفي تشييع الشهداء من كل أطياف سورية، فصلى مع المسلمين في صف واحد في محراب الإيمان والحرية، فأحبه كل أحرار الوطن مسلمين ومسيحيين، وكان رد النظام البائد بشكل عنيف، حين بدأ بالتضييق على الأب باولو، وأصدر أمراً بنفيه خارج سورية، والذي تجاهله الأب باولو لعدة شهور مستمراً بالعيش في سورية مع الثوار.

لكن بعد أن أصدر الأب “باولو” رسالة مفتوحة إلى المبعوث الخاص للأمم المتحدة في أيار2012، أطاع الأب “باولو” أسقفه الذي رجاه لمغادرة البلاد، فغادر الأب “باولو” سورية في 12 تموز 2012، وانضم في المنفى إلى دير “مريم العذراء” المؤسس حديثاً في السليمانية في كردستان العراق، وبقي مناصراً مدافعاً عن الثورة السورية في كل منابر العالم، متحدثاً عن حق الشعب المظلوم  في الحرية والكرامة من كل أطيافه.

وفي تشرين الأول 2012، تم منح الأب “باولو دالوليو” جائزة السلام، من قبل منطقة “لومباردي” الإيطالية، وهي جائزة مخصصة لأشخاص قاموا بأعمال غير عادية في مجال بناء السلام.

ولكن في التاسع والعشرين من شهر تموز من العام 2013، عاد الأب باولو، ودخل إلى سورية متجهاً إلى مدينة “الرقة “قادماً من الحدود التركية، وشارك في تظاهرة مع أهل المدينة الكرام، تناهض القتل والعنف، وطلب بعدها لقاء مع قياديين في التنظيم الأسود الذي سيطر على المدينة مؤخراً، والذي يدعي كذباً وبهتاناً، بأنه مع الثورة، وضد نظام الاستبداد، ويحاول جاهداً أن يسيطر على هذه المدينة بأي شكل مخادعاً الأهالي بشعارات باطلة مضللة لا علاقة لها بأي إيمان.

وكان طلب الأب باولو للقاء أحد المسؤولين في هذا التنظيم الأسود، للتوسط في الإفراج عن صحافيين أجانب أبرياء، ولكن بدلاً عن ذلك تم اختطافه وزجه في سجون جماعة الظلام هذه، ولغاية سوداء في أنفسهم، كاشفين عن وجههم ومخططاتهم الحقيقية والإسلام بريء منهم.

وإلى هذا اليوم، ومع انتصار الثورة السورية، واندحار القتلة ومجرمي العصر من سورية، ما زال يسري في بال أحرار سورية، ومحبي السلام في العالم، بعد ظلام الليل الطويل، أننا لا نعرف حقيقة مصير الأب “باولو”، حتى الآن منذ أن غيّبه طيور الظلام، واختطافه المشؤوم مع شائعات وأقاويل، تحدثت عن اغتياله في ذلك اللقاء المشؤوم وتغييبه.

إن الثورة علمتنا بأنها ليست توقّعات، بل هي التزام قبل كل شيء، وبهذا الالتزام وبدماء شهدائنا، استطعنا أن نعلو فوق الجراح، ونحرر سورية العظيمة من مجرمي العصر، تلك العصابة التي شوهت حاضرنا، ولم نسمح لها بتشويه ماضينا ومستقبلنا.

نعم، سأبقى أكتب وأحكي عن ملاحم وتضحيات أبطال تلك الثورة وشهدائها الأبرار، فكل الأزهار تذبل في الخريف إلا ياسمين سورية وأحرارها، سأكتب عن كل من ضحى في سبيل نشر رسالة السلام وحرية الشعوب، وأن جوهر الدين الحقيقي لا تطرف فيه ولا عنف.

وسأكتب عن كل ضحايا الاستبداد والتطرف والعنف، وإلى الأبرياء في كل بقعة من العالم لأقول لهم جميعا:

لا تخشوا طيور الظلام، فهي تخاف من نقاء أرواحكم، فكل الروايات العظيمة، ما هي إلا حروف وكلمات، إلا أنها حفرت أخدوداً في داخلنا، يدفعنا لأن نقاوم طيور الظلام تلك التي تريد أن تبني في داخلنا نفقاً من السواد، لكنها لم، ولن تستطيع، وسأكتب من جديد لنقول نحن المنتصرون.

*وإلى روح الشهيد الحي الأب “باولو داليوليو”، وإلى كل من ضحى في سبيل نشر رسالة السلام والحرية، ومعرفة جوهر الدين الحقيقي ونبذ التطرف والعنف، كتبت رواية حروفها من السماء، وياسمينها من أرض سورية، وطفت بها كل أصقاع الأرض، لأحكي حكايات المجد، حكايات شهداء من وطن اسمه سورية العظيمة، رواية تحت اسم:

“الآتون من السماء”، رواية وقصة لا تنتهي من ملاحم شهداء الحرية.

أحكي فيها حين يضيق المجال بمقال عن تلك القصص بقلب ينبض بقوة، كحالة ثورة قررت أن تثور على تلك الحروف الصامتة والمنومة منذ زمن بعيد، فيشعر بتلك الحروف وهو يوقظها، ويصيح أن استيقظي، فهناك قصيدة لا تكتب إلا بتلك الحروف الثائرة.

لنكتب إذاً، ونبنِ من جديد، ولا نفقد الأمل، فالنصر يبدأ بقلمك، ويكتمل بصبرك ويسود بإصرارك.

  _________________________________________

 من مقالات العدد الثامن عشر من (العربي القديم) عدد الاحتفال بالنصر، الخاص بشهداء ثورة القرن – كانون الأول/ ديسمبر 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى