فنون وآداب

جميل الحسن.. الابن الذي لم ينكسر

لم يكن مجرد اسم عابر في ذاكرتي، لكنه لم يكن حاضرًا فيها كما ينبغي.

بلال الخلف – العربي القديم

كان صديقي، ولم أكن أراه. كنت أعرفه، ولم أكن أفهمه. كنت أتشاكس معه، وأضحك على عفويته، وأغضب منه أحيانًا، لكني لم أكن أعلم أن هذا الشاب الذي عبر حياتي خفيفًا، كان يحمل جبلاً من الألم على ظهره.

جميل الحسن، ابن كفرنبل، لم يكن مجرد اسم عابر في ذاكرتي، لكنه لم يكن حاضرًا فيها كما ينبغي. كنت أسمع أنه بارٌّ بأبيه، ولكن أي برّ؟ البرُّ كلمة سهلة، تُقال كثيرًا ولا تُحس، تُدرَّس في المناهج، ويعظ بها الخطباء، لكنها تفقد معناها حين تصبح مجرد واجبٍ اجتماعيٍّ بارد، خالٍ من المشاعر الحقيقية.

كان صديقنا محمد الفيصل، أبو فيصل، هو الصلة بيني وبين جميل، وحين سألته عنه ذات مرة، قالها ببساطة:

“رافق والده في مرضه، وعند شلله، لم يتركه لحظة.”

أجبت بإيماءة سريعة، كأن الأمر طبيعي، كأنها مجرد جملة أخرى في حديثٍ عابر. لم أكن أعلم أن هذه الجملة وحدها تحمل حياةً كاملة، عمرًا من التضحية، ليالي طويلة من القهر، وجعًا لا يمكن وصفه بكلمات.

ثم جاءت تلك الحلقة.

ظهرت صورة جميل على الشاشة، جالسًا في بودكاست “مزيج” مع حسن مكي، وبدأ يتحدث. لا أعرف كيف أصف ما شعرت به، لكنني كنت أختنق. لم يكن هذا هو جميل الذي كنت أعرفه. لم يكن الشاب البسيط الذي تراه في الطريق، تلقي عليه السلام وتمضي. كان رجلاً عاش ألف حياة من الألم، وكان صوته يحكي ما لا تقوى الكلمات على حمله.

كان يتحدث عن والده. كان يتحدث عن المرض، العجز، الفقر، الحاجة، الخوف. لم يكن حديثه دراميًا، لم يكن يستجدي دموعنا، لكنه كان يقول الحقيقة، والحقيقة وحدها كانت كافية لتذبحنا جميعًا.

أن ترى أباك يذبل أمامك، يتهاوى يومًا بعد يوم، أن تفقد القدرة على إنقاذه، أن تعرف أن هناك علاجًا في مكانٍ ما، لكنه ليس لك، لأنك ابن هذه البلاد التي سرقها آل الأسد وطائفتهم، لأنك مجرد رقم آخر في قائمة المنسيين، لأنك فقير لا يستحق الحياة في نظرهم… كيف يحتمل الإنسان هذا؟

كيف ينام وهو يعلم أن أباه يتألم، ولا يملك حتى أن يخفف عنه؟ كيف يبتسم في وجه الناس وهو يحمل الخذلان والحسرة والموت البطيء؟ كيف يستمر؟

لم يكن جميل يروي قصة، بل كان يختصر حياة كاملة من البؤس والحرمان. كان يحكي عن ليالٍ طويلة من قلة النوم، من التعب الذي لا راحة بعده، من البرد الذي لا يُحتمل، من الصيف الذي لا ظل فيه. كان يتحدث عن الأحلام التي كانت بعيدة، والواقع الذي كان أقسى من أن يُحتمَل.

كان يحلم بالعمل في الإعلام، لكنه لم يكن يستطيع أن يكون شيئًا سوى رجل التخت الخامسة، سوى العكازة الوحيدة التي تسند والده في سنواته الأخيرة.

كل هذا، لخصه أبو فيصل بكلمة واحدة:

“بارٌّ بأبيه.”

لكن ما سمعته في هذه الكلمة لم يكن برًّا عاديًا. كان جميل يحمل والده كما يحمل الإنسان قلبه، لا يستطيع أن يتركه، ولا يقوى على حمله. كان جميل الابن الذي لم يهرب، الذي لم ينكسر، الذي لم يترك والده وحيدًا حتى وهو يغرق معه في بحر الفقر والخذلان.

هذه الحلقة لم تكن مجرد لقاء. كانت درسًا قاسيًا في البرّ، في الصبر، في الوفاء، في أن تكون ابنًا حين يهرب الآخرون، حين يتعب الجميع، حين تصبح الحياة سجنًا بلا أبواب.

كنت أظن أنني أعرف جميل، لكنني لم أكن أعرفه. كنت أظن أنني فهمت معنى البرّ، لكنني لم أفهمه. كنت أظن أنني رأيت كل شيء، لكنني حين سمعت جميل، عرفت أن هناك أوجاعًا لا تُرى، ومعارك لا تُحكى، وأبطالًا لا يصفق لهم أحد.

جميل، يا صديقي، لم أعد أراك كما كنت، ولن أرى الحياة كما كنت أراها. لقد بكيت، وبكينا جميعًا، لكنك كنت أنت من عاش الألم، ونحن من سمعنا صدى وجعه فقط.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى