طلال سلمان: جردة حساب إيرانية ومخابراتية سورية
ليس مستغرباً أن يتقدم وزير الثقافة الإيراني (محمد مهدي إسماعيلي)، بأحر التعازي لرحيل الكاتب والصحفي اللبناني طلال سلمان مؤسس جريدة “السفير” الذي رحل في الخامس والعشرين من شهر آب/أغسطس الجاري، عن عمر ناهز الخامسة والثمانين عاماً، واصفاً إياه بأنه: “أبرز الإعلاميين في العالم، وهو مؤسس صحيفة “السفير” الشهيرة، الرجل الأبي والمفكر والمبتكر والمبدع والرائد في مجالات الثقافة والأدب والسياسة” فقد كان طلال سيلمان طيلة حياته جزءاً من المشروع الإيراني لابتلاع الشيعة العرب، وجعلهم أداة بيد إيران، وقبل أن يكون شعار جريدة السفير (صوت من لا صوت لهم) كانت تعرف نفسها بأنها: (جريدة لبنان في الوطن العربي، وجريدة الوطن العربي في لبنان)، لكنها في الحقيقة كانت جريدة اليسار المتمسك بقوميته رغم أممية الفكرة اليسارية والشيوعية التي لا تعترف بالقوميات، وكانت جريدة الشيعة السياسية التي ترى الإمام الخميني “آخر حملة الرسالات” كما كتب طلال سلمان في عدد السفير الصادر بتاريخ الخامس من حزيران/يونيو عام 1989 إثر رحيل الخميني، الذي كان طلال سلمان ضمن الإعلاميين الذين رافقوه من باريس إلى طهران إبان انتصار الثورة الإسلامية في إيران كما اجرى مقابلة مع “الإمام الراحل”.
ولد طلال بن إبراهيم سلمان عام 1938 في بلدة شمسطار (غرب مدينة بعلبك) في البقاع اللبناني” لأب كان يعمل دركياً، ويجوب القوى والمخافر المتنقلة بحثاً عن لقمة العيش في لبنان الأخضر. بدأ طلال سلمان مسيرته المهنية مُصحّحاً في جريدة «النضال»، فمخبراً صحافيّاً في جريدة «الشرق»، ثمّ محرّراً في مجلّة «الحوادث» عام 1958، قبل أن يسافر مطلع الستينات إلى الكويت ليعمل في مجلّة «دنيا العروبة» التي صدرت عن «دار الرأي العامّ» لصاحبها عبد العزيز المساعيد. لكنّ رحلته إلى الكويت لم تطل لأكثر من ستّة أشهر، عاد بعدها إلى بيروت ليعمل في مجلّة «الصيّاد» عام 1963 ثم محرّراً في مجلة «الحرّية» ثم مراسلاً لمجلة (الصياد) في القاهرة، وفي عام 1973 أقرضته القيادة الليبية، كما يزعم، مبلغ مليون وثلاثمائة ألف ليرة لبنانية، مولت صحيفة (السفير) في بدايات انطلاقتها. وقد روى طلال سلمان قصة اللقاء الذي أدى إلى منحه هذه الفرصة بالقول:
“في منتصف العام 1973، قدم إلى لبنان شخص ليبي اسمه (مصطفى بزاما) وطلب مقابلة الصحافي طلال سلمان. أخبرني عن رغبة ليبية في إنشاء جريدة ومجلة ومركز دراسات، وأن هناك توصية من القيادة بلقائي أولاً. قلت له: ما علاقتي بالموضوع؟ قال: أنت الأساس، أجبته: لا مكان لي في مشروع من هذا النوع وأخبرته خلال الجلسات التي تلت، أنني أطمح فعلاً إلى أن يكون عندي جريدة، لكن جريدة أؤسسها أنا ولا تكون تابعة لنظام سياسي. تناقشنا واتفقنا على أن يقدّم لي المال الذي أحتاجه في صيغة قرض، وكانت قيمته مليون وثلاثمائة وسبعون ألف ليرة”.
طبعاً لا يوضح طلال سلمان لماذا اختارته القيادة الليبية هو بالذات، ولماذا عندما رفض التعاون معها في إنشاء جريدة ومجلة ومركز دراسات، قررت أن تساعده على تقديم قرض شخصي له، وهو الذي رفض التعاون معها… ثم ما هي ضمانة هذا القرض وهو الذي كان في تلك الفترة مفلساً يقترض بالألف والخمسة آلاف ليرة؟ والسؤال الأهم هل نظام معمر القذافي كان مهتماً بإهداء لبنان صحيفة مستقلة لصحفي توسمت فيه الخير والحس المهني الرفيع من أجل عيون صاحبة الجلالة؟!
يقول طلال سلمان أنه قرر ألا يزور ليبيا إلا بعد صدور “السفير”، وبدأ رحلة التأسيس لجريدته من مصر، فزار محمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين ومحفوظ الأنصاري والتقى أسرة الأهرام ومجموعة من الكتّاب والفنانين والرسامين، وأخبرهم عن المشروع وأبدوا استعداداً للمساعدة في حال احتجت إليها”. وعندما كان يريد اختيار الاسم، وكان متردداً بين اسم (الهدى) و(الفجر) و(السفير) نصحه محمد حسنين هيكل قائلاً: “لا لا… بلاش الهدى. دي فيها التباس ديني، الفجر كويسة والسفير كويسة”. ثم سأله: هل تعرف (مجلة) الحوادث؟ أجابه سلمان: طبعاً عملت فيها مرتين. سأل هيكل: وما معنى الحوادث؟ يعني سيارة صدمت بسيارة، يعني قطار خرج عن السكة، ولكن لأنها نجحت صارت “الحوادث” مضرب مثل بالنجاح. إذاً الاسم غير مهم، وإذا نجحت لن يحاسبك أحد على الاسم”!
ثم يكمل إنه زار ليبيا وكان قد أصدر (15) عدداً من السفير… وعندما قابل الزعيم الليبي وأعطاه نسخاً من الجريدة، تصفحها فلم يجد له صورة فيها فرماها جانباً.
طبعا لا تستحق هذه الرواية، التي توحي للسامع المتبصر أنها رواية محرفة عن رواية أصلية أخرى، لا تستحق إلا بعض العقول الساذجة من صحفيي النسخ واللصق في عصر الإنترنت، أو محرر الدبوس في عصر الإنترنت، كي يصدقها ويستظرفها. أما الحقيقة التي يتحدث بها شهود تلك المرحلة، أن طلال سلمان قبض من القذافي ككثير من الصحفيين اللبنانيين الذين بنوا مؤسساتهم الصحفية الكبرى على الرشاوى السياسية في عصر مال النفط الليبي الداشر، هذا طبعاً بغض النظر عن قيمة كل صحيفة أو مجلة، فكل منهم أنتج على هامش هذه الرشى، ما يمثل حسه المهني في النهاية.
سمعة حسنة وحضور ثقافي
صدر العدد الأول من صحيفة (السفير) في 26 آذار/ مارس عام 1974 وقد اتخذت موقفاً أقرب إلى اليسار، وخصوصاً حين غطت أحداث ووقائع حصار تل الزعتر، ثم المجزرة الرهيبة التي ارتكبها جيش حافظ الأسد في المخيم الفلسطيني، بمساعدة المليشيات المسيحية اللبنانية التي كانت تريد اقتلاع المخيم من بيروت الشرقية. كما شيعت كمال جنبلاط الذي اغتالته المخابرات السورية عام 1977 بمأتم وطني وعروبي لافت، وعندما زار السادات القدس عبرت (السفير) عن الغضب العربي وصار عنوانها الإخباري هجائياً فاقعاً: “الساقط عند المغتصب”، وفي اجتياح بيروت 1982 صدرت حاملة خطاباً وطنياً أصر على أن يعلي نبرة الاحتجاج على هذا الانهيار العربي الذي سمح باجتياح عاصمة عربية، حين وضعت على صدر صفحتها الأولى العنوان- الصدمة: “بيروت تحت الاحتلال الإسرائيلي” ثم: “بيروت تحترق ولا ترفع الراية البيضاء”، وبقيت في كثير من المواقف والمنعطفات صوتاً مناوئاً لما كان يوصف بـ “المحور المسيحي اليميني الانعزالي”، قريباً من محور المقاومة، ومن التوجه الوطني الذي أملته مشاعر وتحولات جعلت من (السفير) اسماً بارزاً في مرحلة عاصفة، يتسم بالاستقامة والنزاهة والاحترام، الذي سوقته الأسماء التي كتبت في الجريدة، واسم طلال سلمان، البعيد عن الإسفاف والترهات، والملتزم بأخلاقيات المهنة وهمومها… حتى كان التحالف بين هذا المحور والجنرال ميشيل عون عقب اغتيال الحريري، فسقطت في حضن الثامن من آذار، دون أن تفقد صلاتها الإعلامية مع “ثورة الأرز”، ولا مع المثقفين السوريين الذين رأوا فيها أملاً، أو تتحول إلى بوق مسكون بروح الاستسلام الرخيص لحزب الله على طريقة جريدة (الأخبار).
أدرك طلال سلمان أن السياسة لوحدها، لا تكفي لتصنع له صداقات دائمة، فعمد إلى التموضع بين المثقفين العرب، واستقطابهم في صحيفته، لتكون صوت من لا صوت لهم. فاستقطب كلوفيس مقصود وفهمي الهويدي وميشيل كيلو وحسين العودات وسعد الله ونوس وعبد الرحمن منيف وجورج قرم وعصمت سيف الدولة، ناهيك عن الحضور المميز لناجي العلي كرسام كاريكاتير فيها. وكان لملحقها الثقافي حضور بارز، شأنه شأن صفحتها الثقافية، التي أمنت لها شريحة واسعة من القراء المحرومين من صحافة ثقافية حقيقية في بلدهم، وخصوصاً من السوريين… ولهذا كانت تجد الصحيفة الكثير من التضامن الشعبي والثقافي مع كل أزمة تواجهها، وكان آخرها عام 1993 تحت حكم الوصاية السوري، حيث صدر قرار حكومي بتعطيلها بعد نشرها وثيقة عن المفاوضات اللبنانية – الإسرائيلية، فلقي القرار اعتراضات واسعة وحظيت «السفير» بتضامن شعبي من مختلف التيارات السياسية. أثر ذلك تم تعديل قانون المطبوعات فمنع تعطيل الصحيفة قبل صدور الحكم بالإدانة، كما منع توقيف الصحافيين احتياطياً.
طلال سلمان المستهدف!
حين تعرض طلال سلمان خلال الحرب اللبنانية لمحاولة اغتيال أمام منزله في رأس بيروت في تموز/ يوليو 1984، احتجبت كبريات الصحف اللبنانية في اليوم التالي، تضامناً معه، وانبرى أدونيس ليكتب افتتاحية نشرت على الصفحة الأولى تحت عنوان: “بقعة صغيرة محاصرة”
نجا سلمان من تلك المحاولة لكنها تركت آثارها على وجهه وصدره، وكانت سبقتها محاولات لتفجير منزله، وكذلك عملية تفجير مطابع «السفير» في نشرين الثاني/ نوفمبر 1980 أدت إلى تدمير مطبعة السفير الحديثة في مبناها الجديد في شارع الحمراء آنذاك. وقد كتب طلال سلمان في افتتاحيته (على الطريق) يقول:
“والحقيقة أننا كنا نعرف، حتى قبل أن يحصل ما حصل للسفير، وفي “السفير” فجر أمس، أننا مطاردون ومستهدفون، وأننا ملاقون ما لقيناه وأكثر منه، لسبب بسيط وهو أننا – مثل كثير من الشرفاء غيرنا- شهادة حية لهذه الأمة المجيدة، وعنوان لإرادة إنسانها في أن يكون إنساناً يستحق شرف الانتماء إليها، بقدر ما يعمل في سبيل استيلاد غدها الأفضل”.
لكن طلال سلمان الذي يعرف أنه مستهدف، وقد كان كذلك بالفعل في فترة من الفترات، والذي كان يرى المثقفون السوريون في جريدته سنداً ومنبراً أيام ربيع دمشق المؤود سريعاً، وأيام انتعاش آمالهم بثورة الأرز اللبنانية إبان خروج جيش الأسد من لبنان، كان مستهدفاً بامتحان الضمير، حين خمدت الاستهدافات الأمنية. ذلك الامتحان القاسي الذؤبري لا يمكن الفكاك منه، إزاء الأحداث الكبرى، التي قد تغدو في لعبة الزمن والمواقف: سقطات كبرى!
طلال سلمان المخابراتي
هكذا عاش طلال سلمان ليدرك الثورة السورية وقد تجاوز السبعين من العمر حين اندلاعها، وهو سن تشف فيه مشاعر الناس، ويستيقظ فيه إحساسهم بالمصير الإنساني أمام وهن الجسد والمرض أكثر مما في فورات الشباب. لكن هذؤبا العجوز السبعيني سقط أمام امتحان الثورة السورية، شأنه شأن كل التركيبة اليسارية – القومجية، التي عاشت عليه جريدته والتي ارتدت نحو انتماءاتها الطائفية. فاتخذت موقفاً معادياً للثورة السورية، ومناصراً لإجرام الأسد، وبرر تدخل حزب الله العسكري لقتل السوريين، ووصل به الحال إلى نفي مسؤولية نظام الأسد عن مجزرة الكيماوي في غوطة دمشق، فنشر عنواناً مضللاً على صدر صحيفة (السفير) الأولى بعيد المجزرة الرهيبة التي أودت بحياة ما يقرب من ألفي مدني جلهم من الأطفال: جريمة الغوطة… ما قصة صاروخي: لواء الإسلام “وراح مراسلها في باريس محمد بلوط يؤلف السيناريوهات والقصص المفبركة عن تفاصيل المؤامرة الكونية التي تتعرض لها سورية، مما لا يليق نشره – عقلياً ومنطقياً – بجريدة لأصحاب الحاجات الخاصة وليس ذات تاريخ عريق كـ “السفير”
أكثر من ذلك.. وبأثر رجعي كتب طلال سليمان مقال العار، الذي رثى فيه أحد أعتى مجرمي نظام الأسد، اللواء المخابراتي محمد ناصيف في مقال نشره في جريدة السفير (29 حزيران 2015) تحت عنوان: (رحيل محمد ناصيف: حارس البيت بالوعي)، وختمه بالقول: “رحم الله هذا «الفارس» الذي تميز بين رجال المخابرات بأن الإنسان فيه، وكذلك «رجل الدولة»، بعقله وحكمته، كان أعظم حضوراً من «الأمني» الذي يعيش الشك في «الآخرين» حتى يخسرهم جميعاً.” وطبعاً لم يكن محمد ناصيف صديق طلال سلمان الوحيد، من بين رؤوس مجرمي أجهزة المخابرات السورية، فقد ربطته صداقة غير مشرفة مع بهجت سليمان، حتى قبل أن يتولى رئاسة الفرع الداخلي، لدرجة أنه تجشم عناء السفر إلى دمشق لتقديم واجب العزاء الشخصي له برحيل والده. ولاشك أن الحرص على مثل هذا النوع من العلاقات لا يقتصر على الجانب الإنساني أو الشخصي، بل لعل هذا الجانب هو الهدف المباشر الذي يجب أن يقود إلى أهداف غير مباشرة، لكنها جوهرية وحقيقية أكثر.
طلال سلمان الشيعي
وإذا كان ثمة من يتعجب من موقف طلال سلمان من الثورة السورية، بل قد يشك أن ذاك الذيب ناصَبَ هذه الثورة اليتمية العداءَ هو نفسه من كان يكتب مقالات الحرية والرفعة القومية والدفاع عن الإنسان العربي المطحون، فإن علينا أن نبحث في بعض الوثائق الاستخبارية التي تضيء هذا الموقف؛ ففي عام 2015 حين بدأت (السفير) تعاني من مشكلاتها المالية قالت وثيقة مرفوعة من السفير السعودي في لبنان إلى وزارة خارجية بلاده، أن رئيس تحرير (السفير) طلال سلمان يقدم “مشاعره الشيعية على حياده الصحفي”، لافتة إلى أن رجل الأعمال “جمال دانيال” بات يمتلك حصة مؤثرة (40%) من الصحيفة. وجمال دانيال هو ابن عاطف دانيال، (ابن أخت ميشيل عفلق)، والمقيم لزمن طويل في سويسرا. وكان جمال الذي قاد حملة علاقات عامة لتلميع صورة الأسد في الولايات المتحدة إثر جريمة اغتيال رفيق الحريري، يملك 40% من الجريدة قبل أن يقرر التوقف عن تمويلها، بسبب خسائرها المالية، ما دفع بطلال سلمان – حسب الوثيقة السعودية إلى محاولة التواصل مع مسؤولين في دولة الإمارات العربية المتحدة، بغرض الحصول على تمويل، دون جدوى. فقد كان انحيازه لحزب الله وإيران أكبر من أن يفتح له باباً كهذا!
بحلول 31 كانون الأول/ ديسمبر من عام 2016 أصدرت صحيفة (السفير) عددها الأخير، حاملا عنواناً عاطفياً: (الوطن بلا سفير) لكن الوطن الذي أضحى بلا سيادة ولا كهرباء ولا بنوك تحترم ودائع عملائه، ولا فرص تحمي شبابه من الهجرة وطرق أبواب السفارات للبحث عن فرصة لجوء، لم يعد بإمكانه أن يكترث بغياب (السفير) التي ارتمت في أحضان الحلف الشيعي الإيراني، الذي ساهم في هندسة معالم هذا الخراب، أما الاهتمام برحيل طلال سلمان اليوم، فهو لازم ومفيد، لأنه يقدم لنا مثالاً عن رجل الاستقامة والحرية الذي يسقط في امتحان الشعار الذي رفعه: “صوت من لا صوت لهم” ليكون صوت من ارتكبوا المجازر بمن كانوا لا صوت لهم في معركة الحرية!