المجال الجغرافي والتأريخي لسورية الطبيعية
مهند الكاطع – العربي القديم
التسمية (سورية، الشآم، بلاد الشام)
ظهرت تسمية سوريّة في مرحلة مبكرة، ويتفق معظم المؤرخين على أنَّ أول من دعاها بهذا الاسم هم الإغريق، إذ وردت التسمية في النصوص اليونانية القديمة في القرن الخامس قبل الميلاد، بشکل( Συρία Suría : Syria) ، ويُعتقد أنَّ أول استعمال للكلمة كان في أوائل القرن السابع الميلادي، فصِلات السكان الأولى كانت مع أهالي قيليقيا وقبدوقيا الذين أطلقوا عليهم اسم( السوريين).
وبما أن المنطقة كلها كانت في تلك الحقبة خاضعة للإمبراطورية الآشورية فقد تعزَّزت النظرية القائلة باشتقاق سوريّة من( آشور)، وأنَّ كلمة السوريين مشتقّة من آشور( Assyria) ولاسيما أنها وردت في كتابات المؤرخ الإغريقي هيرودوتس قرابة( 284-425 ق.م):” الشعب الذي يدعوه اليونانيون السوريين، والمعروف عند البرابرة بالآشوريين”.
تلقّت هذه الفرضيّة انتشاراً واسعاً ولاسيما إثر اكتشاف نقوش مكتوبة باللغتين اللويّة والفينيقيّة في قيليقية، إذ تشير الفينيقية إلى لفظة” آشور”، بينما تذكر اللوية” سوريّة” في المقطع نفسه، وهذا رأي يعارضه المؤرخ فيليب حتي؛ إذ يرى أنه ليس هناك صلة في الغالب بين اشتقاق سوريّة وآشور، وأن من الخطأ جعل لفظ السوريين مرادفاً للآشوريين، في حين تذهب آراء أخرى نحو محاولات تخمين مختلفة لتأريخ الاسم، كأن يكون مشتقاً من مدينة صور( Tzur) أو من الكلمة السومرية( سوبَرْتو- شبَرْتو) التي تعني” الأرض العالية”، وهذه آراء جرى تفنيدها، وفي ضوء المعطيات المتاحة حتى الآن يبقى الرأي الأول هو الأرجح.
أما العرب فقد اصطلحوا على تسمية البلاد الممتدة من عريش مصر إلى الفرات شرقاً، ومن سفوح طوروس شمالاً إلى أقصى البادية جنوباً، باسم” الشام”، وهي سورية وفلسطين في عُرف المتأخرين، فبلاد الشام التي قد تُرسم بصيغ متعددة (الشأْم، الشأَم، الشام، الشآم) تعني جميع المناطق والقصبات والبلدات التي باتت اليوم مقسَّمة بين فلسطين وسورية والأردن ولبنان.
ويستعمل السوريون لفظة الشام اليوم للدلالة على مدينة دمشق العاصمة، وذلك من قبيل إطلاق العام على الخاص، والغالب أن تسمية الشام جاءت من المعنى العربي الذي يفيد اليسار( الشمال)، وذلك بالنسبة إلى موقعها من الكعبة، حيث أطلق العرب اليمن نسبة إلى اليمين من الكعبة، والشام نسبة إلى اليسار أو الشمال منها، ولا صحة للمزاعم التوراتية التي نقلتها بعض المصادر العربية أيضاً كابن الفداء وغيره، عن نسبة التسمية إلى سام بن نوح.
2. سورية (التأريخ، الحدود، الأقاليم)
تشكلت سورية بخارطتها السياسية الحالية بعد تقسيم الدولة العثمانية في المرحلة التي بين الحربين ضمن سلسلة من التوافقات الدولية، ويبقى السؤال عن مدى تقاطع الخارطة السورية الحالية مع جغرافية سورية التأريخية القديمة.
وللإجابة عن هذا السؤال نقول: إنه لا غنى لنا عن مراجعة المصادر الإغريقية والرومانية، وكذلك ما ذكره الفرس القدماء، وجميعها تؤكد أن سورية التأريخية هي أكبر بكثير من سورية الحالية، فقد كان مصطلح (سورية) الجغرافي حتى نهاية الحرب العالمية الأولى يشمل المنطقة الواقعة بين جبال طوروس شمالاً حتى العريش جنوباً، ومن البحر المتوسط غرباً وصولاً إلى الصحراء العربية في الشرق.
وتأريخياً شملت سورية مساحات شاسعة تحدها المعالم الجغرافية من جبال وبحار وصحاري، ويصف زينفونXenophon)) (ت 354 ق.م) مروره بسورية في كتابه” رحلة العشرة آلاف”، ويقول إنه دخل سورية من بوابات كيليكيا وسورية، وانتهى منها عند نهر آراكس Araxes ، وهو نهر يشكل الحدود التي تفصل إيران عن أذربيجان اليوم، وكذلك بلينيوس( Gaius Plinius Secundus) الذي اشتهر باسم بليني الأكبر، أحد أشهر الجغرافيين الرومان(ت 79 م) يذكر في فصل بعنوان( سوريا) البلدان التي تقع ضمن سورية، فيذكر فلسطين جزءا متاخما للجزيرة العربية أو سورية الداخلية، ثم يذكر فينيقيا والجزء الداخلي المسمى دمشق، والأبعد منه المتجه إلى الجنوب الذي كان يدعى بابل، وكذلك بلاد ما بين النهرين( Mesopotamia) الواقعة بين الفرات ودجلة، والمنطقة ما وراء طوروس سوفين( Sophene) وما قبل سوفين كوماجين( Commagene) وما وراء أرمينيا أديادين التي كانت تدعى آشور، والجزء الملاصق لكيليكيا الذي كان يدعى أنطيوكيا( أنطاكيا)، كما إنه يُدخل ضمن أقسام سورية منطقة( Osrhoene) أي:( حرّان والرها) التي تنتشر فيها القبائل العربية، والتي احتلها الرومان وجعلوها ميدان حرب بينهم وبين الفرس، فما أتى به اليونان من أن سورية كانت تؤلف الإمبراطوريّة الآشورية ظلّ قائماً حتى عصر سترابون وبليني وبطليموس، ويبدو كذلك أن سورية حملت اسمها دولةً ذات أرض محددة، حينما أطلق سلوقس على نفسه لقب” ملك سوريا”.
بدأ الإغريق يميزون سورية شرق المتوسط التي تقلصت مع الزمن لتصبح دالة على الجانب الغربي من الفرات، واقتصرت كلمة( آشور) على منطقة( ما بين النهرين) المنطقة الممتدة إلى ضفاف دجلة، واستمرت التسميتان حتى عصر الرومان، ومع حلول العهد البيزنطي كان استعمال كلمة (سوري) قد اتسع وانتشر إلى درجة جعلت الكتابات الأوروبية الغربية العائدة إلى ما قبل الفتوحات الإسلامية تطلق أحياناً اسم (سوريين) على رعايا الإمبراطوريّة البيزنطية كلها.
كانت الجزيرة آنذاك منذ زمن الإمبراطور الروماني تراجان ( باللاتينية: Marcus Ulpius Traianus) (53-117م) ضمن سورية، وقد قسّم دقلديانوس ( باللاتينية: Dioclus) الإمبراطوريّة الرومانية إلى أبرشيات، وكانت سورية تقع في المنطقة الشرقية، وتتألف من تسع ولايات، فحافظ البيزنطيون على هذا التقسيم الذي تضمّن الجزيرة وعاصمتها الرها( أورفة).
أما الفرس القدماء في المسيحيّة المبكرة حتى بعد الإسلام، فقد أطلقوا تسمية (سورستان) على كل من العراق والجزيرة والشآم، وزعمت بعض المصادر أنَّ الاسم المُركب آثورا- آرابيا ( شور العربية) هو الاسم الرسمي لسورية، حينما كانت تحت الحكم الفارسي، وأن النص اليوناني أطلق على الجزيرة اسم (سوريا بين النهرين) ، وكذلك نرى أنه حينما عبَر المؤرخ والفيلسوف والجندي اليوناني المشهور زينفون( 431-354 ق.م) نهر الفرات قادماً من حلب من منطقة الجزيرة قرب مسكنه قال:” الآن دخلنا العربية”.
كما عرفت سورية لدى الأرمن بـ” أسوريكا”، وقد أطلقوا (أسورستان) على منطقة ما بين النهرين أيضاً، وهكذا فاسم سورية، أطلق أول مرة على منطقة الإمبراطوريّة الآشورية التي تألفت من الهلال الخصيب، إلا أنه تقلص إثر الاحتلال الفارسي للجزء الغربي من الهلال الخصيب، وبقيت آثار أصله في تسمية المنطقة الشمالية منه بـ(آثور) التي يُرجّح أنها مصدر التسمية.
على الرغم من شيوع تسمية الشام في المصادر التأريخية العربية إن اسم سورية أيضاً بقي حاضراً في مراجع القرون الوسطى، إذ يشير المسعودي إلى أن سورية هي الشام والجزيرة، وأن الروم كانوا يسمون البلاد التي سكانها مسلمون من الشام والعراق بسورية أيضاً، كذلك الأندلسي الذي يعرّف سورية بأنها اسم للشام، ويذكر ياقوت الحموي لفظ “سورستان” ويشير إلى أنها أرض العراق وبلاد الشام، وأن السريانيين منسوبون إليها، واستشهد ياقوت في هذا السياق بآخر ما قاله هرقل ملك الروم قبل أن يرحل من الشام:” عليك السلام يا سورية، سلام مودّع لا يرجو أن يرجع إليك أبداً”.
نستطيع هنا أيضاً عرض تعريف السوريين وفق أحد الناطقين بالآرامية من مسيحيي سورية في القرون الوسطى، بطريرك أنطاكية اليعقوبي ميخائيل (1166-1199م) الذي يقول: “إن سكان الأراضي الواقعة إلى الغرب من نهر الفرات كانوا يعرفون باسم السوريين، من دون أي لبس، كما أن جميع أولئك الناطقين باللغة نفسها التي يطلق عليها اسم الآرامية [أرميا] في غرب الفرات وشرقه حتى حدود فارس كانوا يعرفون باسم سوريين”.
5a6cq3