قصد السبيل | نبي الله أيوب وطريق الشفاء
د. علاء الدين آل رشي
في عالم يموج بالصخب والشكوى، يستمر د. علي الصلابي في سكينة ووقار وهو يؤصل مشروع تمتين الذاكرة المسلمة بنماذج خلاقة في عالم الفكر والإصلاح، والخير، والحق، والجمال.
وقد صدر من سلسلة الأنبياء والمرسلين كما أسماها د. الصلابي: موسوعة نشأة الحضارة الإنسانية الأولى وقادتها العظام، آدم، نوح، إبراهيم، موسى، عيسى، ومحمد (ﷺ).
النبي الوزير يوسف الصديق (عليه السلام): من الابتلاء إلى التمكين.
الأنبياء الملوك داود وسليمان (عليهما السلام) وهيكل سليمان المزعوم.
لوط (عليه السلام) ودعوته لقومه الظالمين وعقاب الله لهم.
هود (عليه السلام) وزوال حضارة عاد.
نبي الله صالح (عليه السلام) وأسباب هلاك قوم ثمود.
وها هو يرسي قلمه في موانئ الاكتمال النفسي مع نبي الله أيوب عليه السلام فحياته شامخة كنموذج خالد للصبر والإيمان أمام محن الحياة.
كاتب المقال مع مؤلف الكتاب د. الصلابي (العربي القديم)
لوحة إنسانية تمتد عبر الزمن
يتجاوز د. علي الصلابي في سرديته حكاية نبي الله أيوب النبي الصابر فحسب إلى رسم لوحة إنسانية تمتد عبر الزمن لتعلّم البشر أن:
- الألم طريق إلى الشفاء.
- البلاء رسالة محبة من السماء.
ويحضرني هنا ما ذكره ابن القيم في زاد المعاد عن الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله قوله:
” يا بنى: إن المصيبة ما جاءت لتهلكك، وانما جاءت لتمتحن صبرك وإيمانك، يا بنى: القدر سبع، والسبع لا يأكل الميتة “.
المصيبة كير العبد الذي يسبك به، فإما أن يخرج ذهباً أحمر، وإما أن يخرج خبثا ًكله.
كما قيل:
سبكناه: ونحسبه لجينا، * فأبدى الكير عن خبث الحديد
في كتاب “أيوب عليه السلام: طريق الشفاء“ للدكتور علي محمد الصلابي، نجد معالجة فريدة لهذه القصة القرآنية، حيث استطاع أستاذنا د. علي الصلابي استحضار (التوثيق العلمي والتحليل العميق) فقد قدم تحليلًا مستفيضًا لقصة النبي أيوب عليه السلام، حيث خصص لها حوالي 190 صفحة مليئة بالتفاصيل التاريخية، التفسيرية، والدروس المستخلصة ولا أعتقد أن في المكتبة العربية والإسلامية من كتب عن النبي أيوب في هذا الحجم والاستقراء.
في المقابل، نجد كتاب “قصص القرآن الكريم“ للدكتور فضل حسن عباس يُخصص أربع صفحات فقط، أشار فيها إلى الروايات المغلوطة التي تناولت القصة، مستنكرًا قبولها.
أما الأستاذ عفيف عبد الفتاح طباره، في كتابه “مع الأنبياء في القرآن الكريم“، فقد خصص ست صفحات (من 209 إلى 216)، أشار فيها إلى أهمية الأخذ بالأسباب، مؤكدًا أن أمر الله لأيوب بأن يشرب من الماء الذي تفجر تحت قدميه ويغتسل به يُظهر أن الشفاء معجزة تجمع بين الإيمان والعمل.
وفي “دراسات تاريخية من القرآن الكريم“ للدكتور محمد بيومي مهران، تناول المؤلف قصة أيوب من زاوية أدبية وتاريخية. ذكر أن سفر أيوب في التوراة نال إعجاب النقاد، حيث وصفه توماس كارل بـ “أحد أعظم النصوص الأدبية التي تناولت قضية الإنسان والقدر”، بينما وصفه فيكتور هيجو بأنه “أعظم نص أخرجته بصيرة الإنسان.”
يقول د. علي الصلابي وهذه قصة أيوب (عليه السلام)، التي وردت في القرآن الكريم مليئة بالدروس والعبر والفوائد والعظات والسنن الإلهية. إنها تقدم المنهج الصحيح في التعامل مع الابتلاءات.
نفى د. الصلابي الروايات الدخيلة التي شوهت القصة، كادعاءات وجود أمراض منفرة أو أن جسده كان مأوى للدود، مشيرًا إلى أن هذه الإسرائيليات تسيء لمقام الأنبياء.
قارن د. الصلابي قصة هذا النبي المبارك كما وردت في القرآن الكريم بالروايات الدخيلة، محذرًا من اعتماد الأخيرة التي شوهت القصة بنقل صور منفرة وغير لائقة عن نبي الله، مثل الادعاء بأنه كان يعاني من أمراض منفرة أو أن جسده كان مأوى للدود، وهو ما نفاه الصلابي بشدة استنادًا إلى مكانة الأنبياء.
ومن العبر التي نستقيها من هذه القصة ما أشار إليه الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله، بأن الإنسان في لحظات الكرب يلجأ إلى الله، فيجد في هذا الالتجاء راحته وسكينته. قال الله تعالى:
{أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوۤءَ} [النمل: 62].
ويوضح الشعراوي أن الله يحب من عبده هذا اللجوء، ويبتليه ليسمع صوته، فقد ورد أن الملائكة قالت: “يا رب عبدك ضجّ من الدعاء لك، ولم تجبه“، فقال الله: “إن من عبادي مَنْ أحب دعاءهم، فأنا أبتليهم لأسمع أصواتهم.”
الدعاء في قصة أيوب عليه السلام بلغ ذروته حين قال: “ربِّ إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين.” لم يكن الدعاء شكوى، بل كان بيانًا لحالٍ ممتزج بثقة مطلقة في رحمة الله.
التفسير والمقارنات: ثراء الرؤية عند الصلابي
في كتابه،“أيوب عليه السلام: طريق الشفاء أفرد الدكتور علي الصلابي 190 صفحة لتحليل قصة أيوب، مقدمًا معالجة عميقة تجمع بين التحليل التاريخي والدروس المستفادة كما أشرت.
وقد خصص لمبحث الأول لدراسة الجانب النسبي والأسري حيث يشمل اسم أيوب ونسبه، موطنه، وما ذكرته كتب التاريخ والتفسير عنه. وبين المؤلف أنه من نسل إبراهيم (عليه السلام) كما نص القرآن الكريم في قوله تعالى:
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأنعام: 84].
ناقشت خلاف العلماء حول زمانه، وأظهرت بطلان الروايات غير الصحيحة المتعلقة بمرضه وطبيعة بلائه، وكذلك مدة مرضه. كما تناولت “سفر أيوب” المنسوب إليه في العهد القديم وآراء العلماء فيه.
وفي المبحث الثاني تناول د. الصلابي قصة أيوب (عليه السلام) في سورة الأنبياء، مع التركيز على مقاصد السورة وأهداف القصة. تضمنت الدراسة تفسير الآيات المتعلقة به، وشرح مفهوم سنة الابتلاء وأهمية الدعاء في رفع الشدائد. وأكد المؤلف أن التوسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا كان مفتاح الشفاء، كما ورد في قوله:
﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾.
ناقشت شروط الدعاء وآدابه وأوقاته، ومن يستجاب لهم دعاؤهم. وجاء المبحث الثالث ليتناول قصة أيوب في سورة “ص”، مع التركيز على مقاصد السورة وعلاقة ذكر أيوب (عليه السلام) بمقاصدها. تضمنت الدراسة وقفات متدبرة مع الآيات الكريمة، مثل:
﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ﴾، و﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ﴾، و﴿مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ﴾.
وناقش المصائب بين كسب الإنسان وإرادة الله، وأدب الأنبياء مع الله، و أنه لا سلطان للشيطان على أيوب.
واستعرض وسائل الشيطان المختلفة في التأثير على الإنسان، مثل الوسوسة والإغواء والاستفزاز.
كما شرح المؤلف الآية: ﴿وَارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ﴾، وبين من هم أولي الألباب المذكورون في القصة، مستعيناً بأقوال علماء التفسير المعتمدين، مثل الطبري، وابن كثير ،والقرطبي وغيرهم.
اختتم المؤلف الكتاب بتسليط الضوء على صفات وخصائص أيوب (عليه السلام)، وبيان عقيدة الإسلام في الأنبياء والمرسلين، مع التركيز على الإيمان بهم، وحكمة إرسالهم، ووظائفهم.
تناولت الدراسة وفاة أيوب (عليه السلام) كما وردت عند الطبري وابن كثير وابن عساكر، رحمهم الله جميعًا.
الزوجة: شريكة الصبر والبلاء
قدمت زوجة أيوب عليه السلام دورًا بارزًا في قصة نبي الله أيوب، حيث تمثل نموذجًا في الوفاء والصبر. رغم الفقر والعزلة، بقيت إلى جانبه، تقدم الدعم رغم ضعف قدراتها حين تساءلت عن طول مدة البلاء.
مشهد العفو الإلهي حين أمر الله أيوب أن يضربها بعصا رمزية تنفيذًا لنذره كان درسًا في الرحمة والعفو داخل العلاقات الزوجية، ودعوة للرفق والتسامح حتى في أشد الظروف.
يقول المؤلف :
(إن القصص القرآني له علاقة مباشرة بالذاكرة الإنسانية، فهو يسرد أهم المحطات الملهمة في تاريخ البشر الطويل. الوقوف على هذه القصص بالتدبر والتأمل يعين المسلم على السير على الصراط المستقيم، ويحقق التواصل الروحي، الأخلاقي، والعقائدي مع الأنبياء والمرسلين. كما أنه يمثل علاجًا شافيًا لأمراض الشهوات والشبهات، ومعرفة أسباب النجاة وعوامل الهلاك.
هذا الكتاب يجمع ما قاله المفسرون والمؤرخون عن أيوب (عليه السلام)، مستعينًا بالله عز وجل في التسديد والتوفيق للوصول إلى الحقيقة. كما يعتمد على آراء العلماء من الماضي والحاضر، ويتصدى بحزم للروايات الموضوعة والخرافات التي لا تليق بمقام النبوة).
الشفاء: الأخذ بالأسباب بين المعجزة والعمل
جاء الشفاء كختام لهذه الحياة الاختبارية حيث أمر الله أيوب أن يضرب الأرض بقدمه فتفجرت عين ماء شرب منها واغتسل بها.
يرى د. الصلابي أن الشفاء لم يكن مجرد معجزة، بل درسًا في أهمية العمل والسعي.
هذا المفهوم تكرر في كتاب الأستاذ عفيف طباره، الذي أكد أن الأخذ بالأسباب جزء من السنن الإلهية، وأن التوازن بين التوكل والعمل هو جوهر الإيمان.
بعض الدروس المستخلصة من كتاب د. الصلابي.
- الابتلاء ليس عقابًا، بل اختبارًا للإيمان: البلاء وسيلة لتقوية العلاقة مع الله.
- الصبر قوة إبداعية: الصبر ليس استسلامًا، بل طاقة داخلية تنقي الروح وتقرب الإنسان من الله.
- الدعاء مفتاح الفرج: أدب أيوب في دعائه يُظهر قمة التوكل على الله.
- الأخذ بالأسباب واجب ديني: حتى مع وجود المعجزات، يبقى العمل ضرورة إيمانية.
يمثل كتاب “أيوب عليه السلام: طريق الشفاء“ جزءًا من مشروع الدكتور علي الصلابي لإحياء القيم الإيمانية من خلال القصص القرآني.
يضع القصة في إطارها الإنساني، ليقدمها كدرس متجدد يلهم كل من يواجه محن الحياة.
قصة أيوب عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم ليست حكرًا على زمن معين، بل هي استمرار المعاني التعافي ولصبر والتسليم والثقة بأن البلاء بداية جديدة للرحمة الإلهية.
يُعد كتاب “نبي الله يوسف عليه السلام“ للدكتور علي الصلابي مصدرًا زاخرًا بالحكمة والإيمان والرضى، فهو ليس مجرد سردٍ لقصة قرآنية عابرة، بل خارطة طريق تعيد تشكيل الوجدان، وتبعث الأمل في نفوس المكلومين. يبرز الكتاب تجربة النبي يوسف عليه السلام كشاهد على قدرة الإنسان على التعافي من أصعب الأزمات، مهما بلغ عمق الجراح أو قسوة الظروف.
يقدّم الكتاب نموذجًا عمليًا لتمتين العزيمة، وبناء القدرات الذاتية في مواجهة الأزمات. فالقصص العميقة التي يقدمها الكتاب تحمل في طياتها رسالة واضحة: أن الصبر والعمل الدؤوب قادران على تحويل المحن إلى منح، وأن الأمل، مهما انطفأت جذوته، يمكن أن يضيء الطريق من جديد.