العربي الآن

ذاكرة الثورة الشرسة… نار لا تنطفئ وأرشيف لا يُمحى

لا تستخفوا بذاكرة هذا الشعب. الكاميرات لم تعد تغلق، والتسجيلات لا تُمحى، والشاشات لا تُنسى

بلال الخلف – العربي القديم

في عالم متقلّب كمسرح السياسة، حيث يبدّل البعض مواقفهم كما يبدّلون أربطة العنق، هناك من يراهن على أن الجماهير تنسى، أو تُلهيها متاعب الحياة عن تتبع الماضي. لكن جمهور الثورة السورية، ومنذ اليوم الأول، كسر هذه القاعدة، وأثبت أن الذاكرة لا تتآكل مع الزمن، بل تزداد حدة وصفاء، وتتحول من مجرد تذكّر إلى أرشفة واعية، تُسقط الأقنعة وتفضح المتلونين.

في علوم تكنولوجيا المعلومات، يوصى بحفظ البيانات في ثلاث نقاط مختلفة، لضمان حمايتها من الفقدان. أما في سوريا، وتحديدًا في ذاكرة الثوار، فإن المعلومة الواحدة تُوزّع تلقائيًا بين آلاف العقول والقلوب والهواتف وصفحات التواصل. لا تحتاج لأجهزة خوادم متطورة، فكل شاب ثائر هو خادم أرشيف، وكل ذاكرة من ذاكراتهم أشد صلابة من الألماس.

ذاكرتهم متقدة لأنهم اكتووا بالخيانة والتواطؤ، وذُبحوا على مرأى العالم، ودفنوا رفاقهم بيد، وحملوا الكاميرا باليد الأخرى. لأنهم لا ينسون من صمت حين كان الكلام ثمنه الرصاص، ولا يغفرون لمن تزيّا بزيّ الثورة، ثم خلع القناع حين سنحت له أول فرصة للركوب على موجة السلطة. الثورة علمتهم أن الكلمة قد تقتل أكثر من الرصاصة، فصاروا يلاحقون الكلمات، يحفظونها، ويعيدونها لأصحابها حين يلزم الأمر.

من كتب ضد الثورة عام 2012؟ لا بأس. إن عاد اليوم بربطة عنق أنيقة ومنصب رسمي، فلن يحتاج جمهور الثورة أكثر من نصف ساعة ليخرجوا تصريحاته القديمة من الأدراج الرقمية، وينشروها مشفوعة بالتواريخ والسياقات والوجوه. ومن “كَوَع” في منتصف الطريق، وانقلب على عقبه، وصار يزايد على من بقي صامدًا وقدم فلذة كبده شهيدًا، فإن الذاكرة الثورية تتكفّل بتذكيره كيف كان بالأمس يُفدي “القائد” بروحه، ثم عاد اليوم يتحدث عن الثورة بلغة الشرفاء.

أما اليوم، في عصر السرعة، فإن المسؤول لا يحتاج إلى أكثر من ربع ساعة بعد تصريح أخرق حتى يتحول إلى ترند، وتُفتح عليه أبواب النقد والسخرية والتحليل. هذه ليست موجة سوشال ميديا عابرة، بل وعي جماعي يقظ، لا يسمح للزيف أن يمر دون محاسبة.

وهنا، نوجه نصيحة من ذهب لكل من يتصدر المشهد، سواء كان مسؤولًا، أو ناشطًا، أو من يعتقد أن الذاكرة قصيرة: لا تستخفوا بذاكرة هذا الشعب. الكاميرات لم تعد تغلق، والتسجيلات لا تُمحى، والشاشات لا تُنسى. الثورة قد لا تملك سلاحًا اليوم، لكنها تملك ما هو أخطر: ذاكرة تُحرج، وتفضح، وتهدم ما بُني على الكذب.

هي ليست ذاكرة عادية، إنها ذاكرة ثائر. لا تُنسى، لا تُشترى، ولا تُرشى. إنها سجل مفتوح، يكتب فيه كل شيء… وما يُكتب، لا يُمحى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى