شذرات في المظلومية بين الحاكم والمحكوم
تجليات المقاومة بالحيلة في مواجهة ظلم الحاكم وبطشه وفرديته وظلمه

عبد الرزاق دحنون – العربي القديم
من حكايات ألف ليلة وليلة أن رجلًا كان مع قافلة من حُجّاج الشام، والظاهر أنه في غفلة عن القوم، نام نومًا طويلًا في طريق القافلة إلى مكة، وحين استيقظ لم يرَ لقافلة الحجّاج أثرًا، فمشى، فضلّ الطريق، وسار إلى أن رأى خيمة. ورأى امرأة عجوزًا، فسلّم، وطلب طعامًا، فقالت العجوز: امضِ إلى ذلك الوادي، واصطد من تلك الحيات بقدر كفايتك، لأشوي لك منها، وأطعمك. فتردّد الحاج، فقالت العجوز: أنا أمضي معك وأتصيد منها فلا تخف! ومضت معه، فاصطادت من الحيات بقدر الكفاية، وجعلت تشوي منها، فلم يرَ الرجل الحاج من الأكل بدًّا، وخاف الجوع فأكل من تلك الحيات. ثم إنه عطش، فطلب إلى العجوز ماءً للشرب، فقالت: دونك العين فاشرب منها! فمضى إلى العين، فوجد ماءها مرًّا. ولم يجد من شربه بدًّا، مع شدة مرارته لما لحقه من العطش، فشرب ثم عاد إلى العجوز وقال لها: عجبًا منك أيتها العجوز ومن مقامك بهذا الطعام وشربك من هذا الماء! فقالت: فكيف تكون بلادكم؟ قال: إن في بلادي الدور الواسعة الرحبة والمياه العذبة والأطعمة الطيبة، وكل شيء طيب والخيرات حسان، فقالت العجوز: لقد سمعتك، فقل لي: هل يكون لكم من حاكم يحكم عليكم ويجور في حكمه، وأنتم تحت يده، وإن أذنب أحدكم أخذ أمواله وأتلف رزقه، وإذا أراد أخرجكم من بيوتكم واستأصل شأفتكم؟ فقال الرجل: قد يكون ذلك. فقالت العجوز: إذًا والله يكون ذلك الطعام اللطيف والعيش الرغيد والنعم اللذيذة مع الجور والظلم سمًّا ناقعًا، وتعود أطعمتنا مع الأمن والحرية ترياقًا نافعًا.
ولو عدنا إلى المعجمات لتتبع كلمات الظلم والمظلوم والمظلومية لوجدنا ما يأتي: المظلوم الذي يُظلم، الذي يُعاني الظلم أو يُعامل مُعاملة جائرة وتعسُّفيّة، المظلومون هم فئة من المجتمع مظلومة وقع عليها الظلم أو الحيف. وفي القرآن: (ومن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانا). وفي المثل: أظلم من أفعى/حيّة: وصف للظالم المبالغ في الظلم فهو كالحيّة التي تأتي جحرَ الضبّ فتأكل ولدَها وتسكن جحرَها. ورجلٌ ظالمٌ: الجائر، الطَّاغي، من يظلمُ الخلق بِلا حق. والظُّلْمُ في الأساس وَضْع الشيء في غير موضعه. وأصل الظُّلم الجورُ ومُجاوزة الحدِّ.
قيل إنّ المأمون بن هارون الرشيد، سابع خلفاء الدولة العباسيّة، كان يجلس للمظالم يوم الثلاثاء من كلّ أسبوع، فجاء رجل قد شمّر ثوبه، وتأبّط نعله، فوقف على طرف البساط وقال: السّلام عليكم، فردَّ المأمون السّلام، فقال الرجل: أخبرني عن هذا المجلس الذي أنت فيه، جلسته بإجماع الأمة أم بالغلبة والقهر؟ قال المأمون: لا بهذا ولا بهذا، بل كان يتولى أمر المسلمين من عقد لي ولأخي-يقصد الأمين- فلما صار الأمر إليَّ علمت أني محتاج إلى إجماع كلمة المسلمين في المشرق والمغرب على الرضا بي، ورأيت أني متى خليت الأمر اضطرب حبل الخلق، ومرج أمرهم، وتنازعوا، وانقطعت السبل، فقمت صونًا للخلق إلى أن يجمعوا على رجل يرضون به فأسلّم إليه الأمر، فمتى اتفقوا على رجل خرجت له من الأمر. فقال صاحب النعل: السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وذهب.
انظر إلى صاحب النعل حين سمع جواب المأمون كيف سلّم وانصرف. هل سكنت نفسه واطمأنت من قلق على مصير الأمة؟ أكان جواب المأمون شافيًا، كافيًا، سدّ الذائع من كلّ وجه؟ وقد نُقل عن المأمون: ما أعياني جواب أحد مثل ما أعياني جواب رجل من أهل الكوفة، قدَّمه أهلها فشكا عاملهم، فقلت: كذبت، بل هو رجل عادل، فقال: صدق أمير المؤمنين وكذبت أنا، قد خصصتنا به في هذه البلدة دون باقي البلاد خذه واستعمله على بلد آخر يشملهم من عدله وإنصافه مثل الذي شملنا، فقلت: قم في غير حفظ الله، عزلته عنكم. وفي هذا السياق: ألحَّ الذّباب يومًا على أبي جعفر المنصور-ثاني خلفاء الدولة العباسيّة وباني بغداد- في مجلسه حتى أضجره. فقال لحاجبه: انظر من في الباب من العلماء. فقال: مُقاتل بن سليمان. فأُدخل مُقاتل على المنصور، فسأله: لماذا خلق الله الذباب؟ وعاين مُقاتل تبرم المنصور وضجره، فأجابه: لكي يُذلّ به الجبابرة.
تقدّم هذه المشاهد العامّة أو الخلق أو الرعاع أو الدهماء، إن شئت ذلك، بوصفها حشدًا قادرًا على الفعل، وهذا أحد تجليات المقاومة بالحيلة في مواجهة ظلم الحاكم وبطشه وفرديته وظلمه، كما أكد عليه الباحث (جيمس سكوت) أحد أهم علماء السياسية والأنثروبولوجيا في عصرنا في كتابه المهم (المقاومة بالحيلة – كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم) والذي حظي بشهرة عربية واسعة بعد أن ترجمه إبراهيم العريس وميخائيل خوري وصدر عن دار الساقي، ونجح الكتاب في استقطاب عديدٍ من الباحثين، مع ذلك لم يوَّلد أي اهتمام في الوطن العربي بكتب جيمس سكوت الأخرى غير المترجمة، التي لا تقل أهمية، على غرار كتاب (أن ترى كدولة). يقول جيمس سكوت في جواب عن مضمون كتابه هذا والذي لم يُترجم إلى العربية حتى الآن في لقاء مع عز الدين أعرج في موقع “ألترا صوت” في التاسع من شباط/ فبراير 2019: يبدو لي أن ما أجادل بشأنه في كتاب (أن ترى كدولة) ليس ضد المعرفة العلمية. كما أنني لا أجادل ضد الفكر العقلاني. إن ما أجادل بشأنه، هو أن هذا الفكر يجب أن ينتهي إلى تفاعل ديمقراطي حقيقي مع معرفة الناس الذين ليسوا علماء، ومع طرق حياتهم. بمعنى أن فكرة أن المهندسين والعلماء يمتلكون المعرفة فقط هي الخطأ القاتل. إذا كنا نفكر في الزراعة على سبيل المثال، فإن لدى المزارعين العاديين قدرًا هائلًا من المعرفة التي يمكن أن يتعلمها العلماء والمهندسون الزراعيون. لذا يبدو لي أن التحديث الذي يقوده العلم والفكر العقلاني يجب أن يأخذ في الحسبان، إمكانية التعلم من غير العلماء وغير المهندسين، بالإضافة إلى أخذ قيم هؤلاء الناس بعين الاعتبار.
جاء في الأثر: جلس المأمون بن هارون الرشيد يومًا للمظالم، فكان آخر من تقدم إليه -وقد همَّ بالقيام- امرأة عليها هيئة السفر، ثيابها معفّرة، رثة، وحالتها حالة، وقفت بين يديه، وقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين. نظر المأمون إلى نديمه وصاحب مجلسه يحيى بن أكثم، وقال لها يحيى: وعليك السلام يا أمة الله؛ تكلمي بحاجتك. قالت:
يا خيرَ مُنتصَفِ يُهدى لهُ الرشدُ
ويا إمامًا به قد أشرقَ البلدُ
تشكو إليك عَميدَ القوم أرملة
عُدِي عليها فلم يترك لها سَبَدُ
وابتز مني ضياعي بعد مَنعتها ظُلمًا
وغرق مني الأهلُ والولدُ
أطرق المأمون حينًا، ثمَّ رفع رأسه إليها وهو يقول:
في دون ما قلت زال الصبر والجلدُ
عني وأُقرِح مني القلبُ والكبدُ
هذا أذان صلاة العصر فانصرفي
وأحضري الخصم في اليوم الذي أعدُ
فالمجلس السبت إن يُقضى الجلوس لنا
ونُنصفك منه وإلا المجلس الأحدُ
فلما كان يوم الأحد جلس المأمون مجلسه، فكان أول ما قُدَّم إليه تلك المرأة. قالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين، قال: وعليك السلام. ثمَّ قال: أين الخصم؟ قالت: الواقف على رأسك يا أمير المؤمنين، وأومأت إلى العباس ابنه، فقال: يا أحمد بن أبي خالد-وزير المأمون- خذ بيدي العباس فأجلسه معها مجلس الخصوم، فجعلت كلامها يعلو كلام العباس، فقال لها الوزير أحمد بن أبي خالد: يا أمة الله إنك بين يدي أمير المؤمنين وإنك تكلمين الأمير فاخفضي من صوتك. قال المأمون: دعها يا أحمد فإن الحق أنطقها والباطل أخرسه. ثم قضى لها برد ضيعتها. وأمر حاجبه بالكتابة إلى عامله في ديارها أن يحسن معاملتها، وأمر لها بنفقة من بيت مال المسلمين.
ويسأل عز الدين أعرج جيمس سكوت من جديد: لكن ألا تظن أن هذه النوادر والقصص والمُلح قد تكون تعبيرًا عن الإحباط وقلة الأمل بدلًا من كونها تعبيرًا عن المقاومة؟ تعرف أن هناك فضاءات للتعبير ضد السلطة يتم ضبطها من السلطة نفسها. يقول جيمس سكوت في جوابه: وجهة نظري هي أنه عندما تكون السياسة الحقيقية، أي المشاركة المباشرة للقوى السياسية بطريقة منفتحة وديمقراطية، غير ممكنة، فإن ما يحل محلها، هو هذه الأشكال المستترة من الخطاب السياسي. وهي البلاغة التي تأخذ شكل النادرة أو المُلحة أو النكتة. وأعتقد أن هذه النوادر هي بديل نوعًا ما عن السياسة. إنها السياسة عندما لا يكون هناك سياسة حقيقية، وهي الاحتجاجات المفتوحة عندما لا يكون هناك منظمات مفتوحة. لكن ما يهم هو أنها تخلق ثقافة معارضة يسخر فيها الجميع من ادعاءات النخب. حيث تكون تلك النوادر دلالة على تلك السخرية والثقة، لأنه يتم تشاركها. إن الفكرة الأساسية في المُلحة هي في الواقع في قيمتها الاجتماعية، كطريقة لخلق خط اتصال وتضامن. ولذلك فإنها تبقي الأمل موجودًا. إنها غاية في الأهمية.