دلالات وقضايا | جينالوجيا النَّقد الانطباعيِّ السُّوريِّ المعاصر
يبرِّر النُّقَّاد الانطباعيُّون السُّوريُّون في مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ بعض التَّصرُّفات، ويشكِّك بعضهم في رواية بعض الأحداث ومعايير بعض القضايا
د. مهنا بلال الرشيد – العربي القديم
لا أحبُّ المفكِّرين ورؤساء الأحزاب والمنظِّرين الَّذين يدعون إلى بناء الدُّول على أساس النَّقاء العرقيِّ، ولستُ من أنصارهم أيضًا؛ لأنَّ الله-سبحانه وتعالى-جعلنا شعوبًا وقبائل لنتعارف، ونتواصل، لا لننعزل على أساس النَّقاء العرقيِّ والنَّظريَّات القوميَّة الخدَّاعة، وبرغم ثقتي بكثير من الملاحظات العلميَّة الدَّقيقة ونتائج البحوث والدِّراسات الاجتماعيَّة الرَّصينة، الَّتي حدَّدت ملامح بعض الشُّعوب الوراثيَّة أو جينالوجيا صفاتها الأخلاقيَّة ومهاراتها الجسديَّة؛ كتسمية إرنيست رينان (1823-1892) شعب الصِّين بالعرق الأصفر وكشفه عن مهاراتهم الجسديَّة، الَّتي ستمكِّنهم من غزو العالم بصناعاتهم فيما بعد إلَّا أنَّني أرفض اعتماد نتائج هذه الأبحاث لتوظيفها لصالح أيِّ دعوة عنصريَّة والمناداة بتشكيل بعض الكيانات أو الأحزاب أو الأقاليم على أساس القوميَّة أو النَّقاء العرقيِّ.
تحقَّقت نبوءة رينان القائمة على ملاحظته العلميَّة الدَّقيقة، وغزا شعب الصِّين الأصفر-بحسب تسميته-عالمنا الحديث بصناعاته، وكرَّس الصِّينيُّون تفوُّقهم التِّقنيَّ في الصِّناعات اليدويَّة، وطوَّروا مهاراتهم، بعدما استفادوا من آراء كارل ماركس (1818-1883) حول تقسيم العمل وتنظيمه، ثمَّ أَتْمَتوا هذا العمل، وصنعوا برامج الذَّكاء الصِّناعيِّ، الَّتي تسدُّ مكان الإنسان في كثير من مراحل العمل أو خطواته، وظهر في الأيَّام الأخيرة تطبيق الصِّينيِّين الشَّهير في الذَّكاء الصِّناعيِّ المعروف باسم (Deep Seek)؛ ونستنتج من هذا التَّقديم الموجز حول ملاحظات رينان العلميَّة ودعواته العنصريَّة ضدِّ بعض الشُّعوب الأخرى كالصِّينيِّين والمسلمين أنَّ الملاحظات العلميَّة الدَّقيقة مع نتائج البحث العلميِّ الرَّصين في جينالوجيا أيِّ شعب أو أيِّ ظاهرة لدى أيِّ شعب يمكن أن نستفيد منها في تفسير أسباب الحضارة والتَّقدُّم والتَّطوُّر، ويمكننا أن نوظِّفها في دعوات عرقيَّة أو قوميَّة أو شوفينيَّة مدمَّرة، كما ظهرت في نظريَّات: (شعب الله المختار) و(الغصن الذَّهبيُّ) و(التَّفوُّق الفينينقيِّ)؛ ومن هنا تنطلق فكرة هذا المقال المخصَّصة للبحث في جينالوجيا النَّقد الانطباعيِّ السُّوريِّ المعاصر.
معنى الجينالوجيا
تعدُّ مؤلَّفات الفيلسوف الألمانيِّ الشَّهير فريدريك نيتشه (1844-1900) رائدة في هذا المجال، فقد كتب (ما وراء الخير والشَّرِّ) و(جينالوجيا الأخلاق)، وأراد في كتابيه الرَّائدين أن يتحدَّث عن أصل الخير والشَّرِّ والأخلاق أو ظروف تكوينها أو ظروف تكوين القيم المرتبطة بها؛ وهذا يعني أنَّ الجينالوجيا بحث في جينات الأشياء والظَّواهر أو أصولها الوراثيَّة أو ظروف نشأتها وتكوينها. وإن كنتُ لا أحبِّذُ فرز البشر على أساس أعراقهم أو خصائصهم الوراثيَّة نظرًا لكثرة المنظِّرين الَّذين انزلقوا من هذه المباحث إلى نتائج عنصريَّة فإنَّنا لا نعدم من حاول إمساك هذه العصا من منتصفها؛ كمحمَّد عابد الجابريِّ (1935-2010) عندما تحدَّث عن بنية العقل العربيِّ، ولم يقصد بها خصائص دماغ الإنسان العربيِّ وإنَّما أراد بها تكوين الوعي العربيِّ، ويبدو لي أنَّ البحث السُّوسيولوجيَّ الثَّقافيَّ في أيِّ ظاهرة لدى أيِّ شعب من الشُّعوب يبدو مستساغًا أكثر من بحثنا في خصائص عقل هذا الشَّعب أو فكره أو وعيه العامِّ في وقتنا الرَّاهن؛ لكنَّ المشكلة تكمن في انتزاع الظَّاهرة المدروسة أو عزلها عن سياقها الثَّقافيِّ أو التَّاريخيِّ الَّذي أنتجها؛ ومن هنا يصعب الحديث عن النَّقد الانطباعيِّ السُّوريِّ المعاصر دون معرفة السِّياق الثَّقافيِّ والتَّاريخيِّ لهذا النَّقد.
النَّقد الانطباعيُّ السُّوريِّ المعاصر
لا نعني بالنَّقد في هذا المقال مصطلحه الدَّقيق الدَّالَّ على علم النَّقد أو فنِّ النَّقد، ولا نخصِّصه للنَّاقد العالم أو النَّاقد المحترف، بل نقصد به نماذج من النَّقد الانطباعيَّ الَّذي يقدِّمه مجموعة من النُّقَّاد السُّوريِّين الانطباعيِّين أو المؤثِّرين السُّوريِّين، الَّذين تحظى منشوراتهم أو محتوياتهم النَّاقدة والمختصَّة بالشَّأن السُّوريِّ المعاصر بمتابعة مقبولة أو جيِّدة على مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ. وينطبق على كثير من هذه الآراء الانطباعيَّة ما ينطبق على ملاحظات إرنيست رينان العلميَّة الدَّقيقة وبعض تطبيقاتها العنصريَّة المقيتة لها، فالنَّاقد الانطباعيُّ السُّوريُّ المعاصر أو صاحب المحتوى على مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ سليل حضارة عريقة ضاربة في أعماق التَّاريخ، وتمتدُّ إلى ما لا يقلُّ عن خمسة آلاف سنة؛ ولأنَّ التَّاريخ سلسلة من الحلقات المتِّصلة -وبحكم جينالوجيا الأشياء- يتأثَّر ناقدنا الانطباعيُّ المعاصر بتراث أجداده المكتوب على ألواح أقدم مكتبة في العالم، عُثِر عليها في إيبلا، وتضمُّ أرشيف العالم القديم وتاريخه الحضاريَّ ومعاهداته الدِّيبلوماسيَّة وأساطيره وفنونه وآدابه ومعتقداته؛ لذلك لا تتعجَّب قارئي العزيز من النَّاقد الانطباعيِّ السُّوريِّ المعاصر إن أبدى رأيه في تشكيل المناهج التَّعليميَّة بعد الإطاحة بنظام المخلوع بشَّار الأسد، وإن عَتِب على حذف بعض الرُّموز التَّاريخيَّة من المناهج، وإن طالب بتدريس تاريخ الملك إبِّت ليم ومملكته في إيبلا حوالي 2500 قبل الميلاد، وإن طالب بوضع صورته في كتب التَّاريخ والمناهج الحديثة أو على العملة السَّوريَّة الجديدة أو في صفحات جواز السَّفر الجديد، وإن تحدَّث في العلم والفنِّ والسِّياسة والدِّين والأدب والأخلاق والدِّيمقراطيَّة والحقِّ والعدالة والخير والشَّرِّ وما ورائهما أيضًا؛ فهذه النَّاقدة أو ذلك النَّاقد سليل تاريخ قديم وحضارة عريقة وغزيرة مثل النَّهر -لا شكَّ- أنَّ آخره مدفوع بأوَّله، وأحداثه المعاصرة ونقَّاده الانطباعيُّون المعاصرون جاؤوا نتيجة تراكمات طويلة من الأحداث القديمة، الَّتي يكشف عنها التَّحليل السُّوسيولوجيِّ لكلِّ ظاهرة يتحدَّثون عنها.
ما فائدة النَّقد الانطباعيِّ؟
يبرِّر النُّقَّاد الانطباعيُّون السُّوريُّون في مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ بعض التَّصرُّفات، ويشكِّك بعضهم في رواية بعض الأحداث ومعايير بعض القضايا، ويحاول هذا أو ذاك منهم أن يكرِّس أسلوبه أو منهجه أو طريقته، وليقدِّم نفسه من وراء ذلك كلِّه ناقدًا ذا جينولوجيا أخلاقيَّة راسخة تُعلي من إنسانيَّة الإنسان، وتحترمها؛ لكنَّ متابعة منشوراتهم أو منشورات بعضهم لا تكشف تحوُّلات مواقفهم وحسب، بل تكشف مساوئ تبدُّلات النَّقد الانطباعيِّ عمومًا؛ فبعضهم على سبيل المثال: وقبل انطلاق معركة ردع العدوان في السَّابع والعشرين من تشرين الثَّاني-نوفمبر 2024 في سوريا كان يقول، وبالفم الملآن: لقد فشلت ثورتنا؛ لماذا لا نعترف بفشلها؟! ثلاث عشرة سنة خسرنا فيها الكثير، ولم نكسب أيَّ شيء! ثمَّ انطلقت معركة ردع العدوان؛ فقال بعض هؤلاء الانطباعيِّين وبعض النُّويقدين المرتزقة المأجورين على منشوراتهم وفي منظَّمات هذا أو مؤسَّسات ذاك: يجب ألَّا تكبر الخَسَّة في رؤوس قادة ردع العدوان؛ لصالح مَن يفتحون هذه المعارك الكبيرة في هذه المرحلة؟ يجب أن يكفُّوا عن المعارك، ويتعلَّموا من أخطاء الماضي! وعندما حرَّر ثوَّار معركة ردع العدوان مدينة حلب، قال بعض المرتزقة: حلب وإدلب تكفيانا في المرحلة الرَّاهنة، وعندما وصلوا إلى دمشق أمرهم مموِّلهم بالذَّهاب إلى دمشق؛ فشاهدنا صور كثير منهم في مقهى الرَّوضة وبين معالم دمشق وأوابدها التَّاريخيَّة، وكتبوا يستجدون هذا الوزير وظيفة، ويطلبون من ذاك أن يكلِّفهم بمهمَّة؛ لأنَّهم (بالحبِّ) و(بالصُّوَّر مع علم الثَّورة) و(بخبراتهم الكثيرة والقديمة والرَّاهنة وفي كلِّ مجال عند وليِّ نعمتهم) سوف يعمِّرون سوريا؛ والحقُّ إنَّ معظم هؤلاء النُّقَّاد الانطباعيِّين لا يوفِّرون أيَّ حادثة من حوادث الرَّأي العامَّ-وبفضل الحرِّيَّة الَّتي نشرتها غنائم معركة ردع العدوان-إلَّا ويقدِّم أحدهم وجهة نظره فيها ونقده لها في منشور هنا أو بثِّ هناك أو على شاشات التَّلفزة لدى وليِّ نعمته هنالك، ولكن ما الَّذي يكمن وراء هذا النَّقد؟
ما وراء النَّقد
هنا نرجع إلى بداية مقالنا المؤسَّس على أفكار إرنيست رينان وفريدريك نيتشه حول (جينولوجيا الأخلاق) و(ما وراء الخير والشَّر)؛ لنكتشف كثيرًا من الغايات الشَّخصيَّة والمآرب والأهواء الذَّاتيَّة وتبادل المنافع بينهم وبين وليِّ نعمتهم يكمن خلف منشوراتهم وبثوثهم وتبدُّلات مواقفهم؛ وهذا شيء عظيم الفائدة، وبعكس ما قد يبدو لك عزيزي القارئ؛ إنَّه يكشف عيوب النَّقد الانطباعيِّ عمومًا، ويكشف كثيرًا مِن مآرب مَن يسلك دروب هذا النَّقد، لا سيَّما إن كان من جماعة مَن يكثر حديثه؛ لأنَّ مَن يكثر حديثه يكثر خطؤه، أو إن كان مِن جماعة المكوِّعين أو المستوزِرين أو متعدِّدي الخبرات والمواهب أو الَّذين لا يثبتون على رأي أو موقف؛ فهؤلاء وإن لبست بثوثهم ومنشوراتهم زيَّ النَّقد أو ظهرت بمظهر السُّوريِّ الحريص على قيم الحرِّيَّة والدِّيمقراطيَّة والعدالة والحقِّ والخير والجمال والمحبَّة والسَّلام في وطنهم؛ فإنَّهم، أو إنَّ كثيرًا منهم، وفي حقيقة أمرهم، لا يتحرَّكون إلَّا بدوافع الطَّمع أو الثَّأر الشَّخصيِّ بعيدًا عن قيم التسَّامح حينًا، ويتحرَّكون عندما يسمعون رنين السِّينتات والدَّراهم، أو يشمَّون رائحة الوظيفة في أحيان أخرى، وهذا بحدِّ ذاته مكسب لقيادة سوريا الجديدة حين تراقبهم، وتصحِّح مسارها، وتتلافى بعض أخطائها بناء على الكيد أو الطَّمع الكامن خلف نقدهم، فقد قال أحد المرتزقة قبل معركة ردع العدوان مسترزقًا أو مستهزئًا أو معترفًا بفشله: لقد فشلت ثورتنا، وأكلنا شوكولامو! وكان يقصد أنَّه أكل ما في خُمِّ الدَّجاج عدا البيض والرِّيش، وبعد أن انتصرت الثَّورة، وبايع القادة العسكريَّون أحمد الشَّرع رئيسًا للجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة قال صاحب الخمِّ: هذه ثورة سوريا؛ هذه ثورة الشَّعب السُّوريِّ كلِّه؛ ولا تكفي هذه المبايعة، ولا تمنح الشَّرعيَّة لأحد؛ ولا تنطلي علينا هذه التَّمثيلييَّات؛ نريد تمثيلًا لقوى الثَّورة المدنيَّة؛ وهو ذاته قبل المعركة -وبأمر من وليِّ نعمته صاحب الموقع الإخباريِّ الَّذي يعمل معه- كان يقول: فشلت ثورتنا، وأكلنا شوكولامو! فكيف تطلب يا (عزيزي) الفاشل مكاسب فشلك أو حقدك أو ارتهانك لهذا وذاك؟
لا أقول كلامي هذا لمصادرة هذا الرَّأي أو ذاك؛ بل على العكس من ذلك؛ أدعو إلى الاستماع لكلِّ الآراء؛ وذلك للاستفادة من كلِّ نقد لتلافيه؛ لا سيَّما نقد الحاقدين والمأجورين، والنَّقد الَّذي يكمن خلفه جينولوجيا الكراهيَّة والأنانيَّة وحبِّ الأموال والسِّينتات، وإن تمظهر بمظهر حبِّ الوطن؛ فهذا النَّوع من نقد الحاقدين يكشف بعض الأخطاء البسيطة، الَّتي يمكن تلافيها، وتصحيح مسارها؛ وبعد الاستماع لهم لتصحيح المسار يمكن أن نترك أصحابها والمعجبين بهم يهذون، ويعلِّقون على مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ، ويمكننا أن نقول لهم جميعًا: رحم الله مَن أهدى إليَّ عيوبي!