الرأي العام

دلالات وقضايا | دعوات الإصلاح التَّعليميِّ بعد الثَّورة

الخطوة الإصلاحيَّة التَّعليميَّة والاستراتيجيَّة بعيدة المدى رعاية الموهوبين وتحديد مواهب الطُّلَّاب ومجالات شغفهم مبكراَ

د. مهنا بلال الرشيد – العربي القديم

كان انتصار الثَّورة السُّوريَّة في الثَّامن كانون الأوَّل-ديسمبر 2024 نتيجة حتميَّة لسيرورة تاريخيَّة بدأت ملامحها قبل ربع قرن، وارتفعت وتيرتها خلال أربعة عشر عامًا مباركًا، وسبقها إرهاصات كثيرة كشفت عن أهميِّة حراك المجتمع ودوره في صناعة سيرورة التَّاريخ وتوجيهها لصناعة فُرص التَّغيير. وسيرورة التَّاريخ تشبه في صدقها أرقام الإحصاء والرِّياضيَّات وعلوم الحساب والمعادلات الجبريَّة الدَّقيقة؛ تلك الَّتي لا تحابي بشروطها أحدًا؛ فأيُّ معادلة صفريَّة أو ما دون الصِّفر لا تصنع فرصة تاريخيَّة تقود إلى التَّغيير المأمول؛ بسبب الجدل أو الديالكتيك بين القوى المتصارعة من أجل السَّيطرة على المجال الحيويِّ وقيادته وتوجيهه نحو أهداف القوى المنتصرة وتوجُّهاتها المنشودة؛ لذلك كانت قاعدة: (التَّاريخ يكتبه المنتصرون) قاعدة جوهريَّة؛ وما عبارة: (من يحرِّر يقرِّر) إلَّا شكلٌ من أشكالها أو تجلٍّ من تجلِّياتها، ومع ذلك لا نعدم في وقتنا الرَّاهن كثيرًا من الدَّعوات الإصلاحيَّة في مجالات الحياة الاجتماعيَّة كلِّها، ويصدر بعضها عمَّن شارك بالثَّورة أو انتصر فيها، ويصدر بعضها الآخر عن المراقبين غير المشاركين ممَّن يعدُّون أنفسهم شركاء المنتصرين، وقد يعدُّ بعضهم نفسه من (السَّابقين السَّابقين) بعض الأحيان؛ ولسنا في صدد الوقوف على تصنيف دُعاة الإصلاح والتَّغيير في مجالات الحياة الاجتماعيَّة كلِّها، وإنَّما نخصِّص هذا المقال للحديث على بعض من دعوات إصلاح التَّعليم وخلفيَّاتها الفكريَّة وتجارب أصحابها ممَّن يجدون في أنفسهم مؤهِّلات لتلك الدَّعوات أو مشاريع إصلاح التَّعليم الَّتي ينشرون بعض أفكارهم عنها بين الآونة والأخرى.

تيَّار الإصلاح الدِّينيِّ

وجدتُ خلال متابعتي دعوات إصلاح التَّعليم في الشُّهور القليلة الفائتة أنَّ الصَّوت الأعلى للإصلاح التَّعليميِّ صدر عن دعاة منتمين إلى تيَّارات دينيَّة محدَّدة أو يدورون في فلك تيَّارت معيَّنة، وبعضهم مستقلٌّ لكنَّ معظمهم انطلق من رؤية دينيَّة إسلاميَّة للإصلاح التَّعليميِّ، ورأى بعض هؤلاء الدُّعاة أنَّ مهمَّة التَّعليم الأبرز هي إنشاء جيل جديد يقيم أحكام الإسلام أو يبني دولة الإسلام ويطبِّق شريعته في الوطن وفي مرافق الدَّولة أو الأمَّة كلِّها. ورأى أصحاب التَّيَّار الثَّاني بين دُعاة إصلاح التَّعليم المستندين إلى خلفيَّة ثقافيَّة دينيَّة أو رؤية دينيَّة أنَّ الإصلاح ينطلق من كلِّيَّة الشَّريعة أو كلِّيَّة العلوم الإسلاميَّة ذاتها، وأوَّل خطوة للإصلاح ستكون بإضافة سنة دراسيَّة جديدة إلى سنوات التَّعليم الجامعيَّة الأربع في كلِّيَّة الشَّريعة لتصبح خمس سنوات، يتعلَّم الطَّالب في السَّنتين الأولى والثَّانية منهما القرآن الكريم وتلاوته وتفسيره والسِّيرة مع الحديث النَّبويِّ الشَّريف ومصطلحه بالإضافة إلى أصول الدِّين والفقه والعقيدة والفرائض وفنون الخطابة وما يقف خلفها من أساليب اللُّغة وفنون البلاغة وقواعد النَّحو والصَّرف؛ ثمَّ ينطلق بعد هاتين السَّنتين إلى التَّخصُّص في مجالات أخرى مساندة للاختصاص الشَّرعيِّ؛ أي يتَّجه داخل كلِّيَّة الشَّريعة إلى التَّخصُّص في الصَّحافة والإعلام أو الحقوق والقضاء أو علوم الفلسفة والاجتماع أو التَّربية وغيرها من علوم الحياة النَّظريَّة أو التَّطبيقيَّة.

يبدو لي شيءٌ من قصور النَّظر لدى أصحاب الدَّعوة الإصلاحيَّة الأولى من المتديِّنين حين يقولون: إنَّ مهمَّة التَّعليم الأولى هي إقامة الشَّرع أو أحكام الإسلام، ويتأتَّى هذا القصور من مضمون هذه الدَّعوة، الَّتي تعني بشكل من أشكالها تحويل التَّعليم إلى ما يشبه أديرة الرَّهبنة والمدارس الشَّرعيَّة المغلقة واختصار علوم الحياة كلِّها بهذا النَّوع من التَّعليم، الَّذي يجب أن يكون ضمن حدِّه أو معدَّلاته الطَّبيعيَّة؛ لأنَّ المجتمع بحاجة إلى علوم الحياة وفنونها كلِّها، وليس إلى الدُّعاة وحدهم، وإن كان اختزال علوم الحياة بالعلوم الشَّرعيَّة أبرز المآخذ على هذه الدَّعوة، الَّتي لا تصمد أمام النَّقد، ولا تصلح للتَّطبيق على أرض الواقع إن تجاوز تطبيقها إنشاءَ أكثر من مدرسة واحدة أو مدرستين في المحافظة أو الولاية فإنَّ أبرز حسناتها سيكون في تخريج طلَّاب العلوم الشَّرعيَّة المقتدرين على مستوى الفصاحة والخطابة وأساليب الحوار والحجاج، وهذه واحدة من أبرز سمات التَّعليم الدِّينيِّ، ولطالما تميَّز بالفصاحة والبلاغة خرِّيجو الأديرة اليهوديَّة والمسيحيَّة والمعاهد والمدارس الشَّرعيَّة والحوزات العلميَّة الإسلاميَّة؛ وذلك لأنَّ إعداد الخطيب المفوَّه والمسلَّح بالكفاءات اللُّغويَّة المناسبة واحد من أبرز أهداف التَّعليم الدِّينيِّ منذ أيَّام الفراعنة والأكديِّين حتَّى ديانة التَّوحيد الإبراهيميَّة مرورًا بمدارس التَّعليم الدِّينيَّة اليهوديَّة والمسيحيَّة والإسلاميَّة.

أمَّا الدَّعوة الثَّانية؛ وهي دعوة تحويل كلِّيَّة الشَّريعة إلى ما يشبه كلِّيَّة التَّربية الأساسيَّة، التَّي تخرِّج المختصِّين من جميع الأقسام والاختصاصات بعد تأسيسهم وتسليحهم بالعلوم الشَّرعيَّة في السَّنتين الأولى والثَّانية؛ فهي دعوة غير قابلة للتَّطبيق من وجهة نظري؛ ولأسباب كثيرة؛ نذكر منها: أنَّ مهمَّة تخريج الطُّلَّاب باختصاصات متعدِّدة هي مهمَّة كلِّيَّة التَّربية ودبلومات التَّأهيل التَّربويِّ من ناحية أولى، ومن ناحية ثانية تكمن المشكلة في طالب كلِّيَّة الشَّريعة ذاته؛ لأنَّ الغالبيَّة العظمى من منتسبي كلِّيَّة الشَّريعة ينحصرون بين قسمين؛ قسم أحبَّ العلوم الشَّرعيَّة عن قناعة ذاتيَّة أو بسبب تنشئته الاجتماعيَّة؛ فاختار هذه الدِّراسة حتَّى وإن كانت إمكاناته تؤهِّله لدراسة الطِّبِّ أو الهندسة أو الإعلام أو غير ذلك؛ وبغضِّ النَّظر عن نسبة هؤلاء الطُّلَّاب بين منتسبي كلِّيَّة الشَّريعة فإنَّهم-وفي الغالب-سيكونون المتفوِّقين بين زملائهم، ولا يعنيهم أبدًا توسيع مجالات كلِّيَّة الشَّريعة؛ لتصبح بديلًا لكليَّة التَّربية الأساسيَّة، ولم يدخلوا هذه الكلِّيَّة إلَّا حبًّا بالعلوم الشَّرعيَّة أو بالاختصاص الدَّقيق ببعض العلوم الشَّرعيَّة؛ كالتَّفسير أو أصول الفقه أو العقيدة أو بعض الاختصاصات الشَّرعيَّة الأكثر دقَّة بدلًا من توسيع كلِّيَّة الشَّريعة لتصبح بديلًا عن كلِّيَّة التَّربية الأساسيَّة.

أمَّا الصِّنف الثَّاني من طلَّاب كلِّيَّة الشَّريعة والعلوم الشَّرعيَّة؛ فقد كان معظمهم في مرحلة ما قبل الثَّورة ممَّن لم يحقِّق الدَّرجات العالية، الَّتي تمكِّنه من الوصول إلى الكلِّيَّات الأخرى، مع بعض الاستثناءات القليلة؛ فوجدت هذه الفئة من الطُّلَّاب أنفسها داخل كلِّيَّة الشَّريعة، وكثيرًا ما سمعنا من أساتذة كلِّيَّة الشَّريعة عن معاناتهم مع هذا النَّوع من الطُّلَّاب؛ يعانون معهم في شرح الدُّروس، وفي تعليمهم فنون التَّفسير والتَّأويل، وفي حثِّهم على الاجتهاد لفهم النُّصوص ومقاصدها بعد تجاوز مرحلة حفظ النُّصوص وترديدها ببغاويًّا دون فهم كثير من مقاصدها؛ وهذه الفئة من الطُّلَّاب تنسف كلَّ دعوة لتوسيع اختصاصات كلِّيَّة الشَّريعة؛ فمن أراد دراسة الإعلام اجتهد وحقَّق مبتغاه، ودخل كلِّيَّة الإعلام، ومن أراد الطَّبَّ والصِّيدلة والهندسة وغيرها اجتهد، ودخل إلى الاختصاص الَّذي يريده، ومن الصُّعوبة بمكان أن تنجح دعوة من الدَّعوات، وتقود إلى توسيع مجالات كلِّيَّة الشِّريعة وأقسامها واختصاصاتها؛ لتغطِّي علوم الحياة ومجالاتها، ولتصبح بذاتها بديلًا عن كثير من الكلِّيَّات؛ وهذه أسباب موضوعيَّة وتقنيَّة تقود إلى انهيار هذه الدَّعوة؛ هذا إن تقبَّل المجتمع مثل هذه الدَّعوة أساسًا، وفي الغالب يعلم قادة التَّعليم والثَّقافة والسِّياسة أنَّ المجتمع يحتاج إلى اختصاصات جديدة داخل الكلِّيَّات الجديدة بدلًا من نقل بعض الاختصاصات إلى كلِّيَّة الشَّريعة ذاتها.

تجربة جامعة حلب في الشُّهور الأخيرة

استطاعت جامعة حلب خلال شهور قليلة أن تقود حملة إصلاحيَّة مختلفة، تشبه العزف المنفرد بعيدًا عن هذه الدَّعوة أو تلك، وقد انطلق القائمون عليها من فكرة مكافحة الفساد؛ فاكتشفوا بعد المراقبة والمتابعة والتَّدقيق والتَّحرِّي فسادًا كبيرًا في كلِّيَّة الاقتصاد بالتَّواطؤ مع بعض الموظَّفين أو الموظَّفات من القائمين على شؤون الامتحانات؛ ممَّا يمكِّن بعض الطُّلَّاب والأساتذة والموظَّفين الفاسدين من صناعة الخرِّيج المتفوَّق بدرجاته برغم فشله العلميِّ؛ وذلك من خلال الرَّشوة والفساد؛ وهذا يعيدنا إلى مرحلة التَّعليم في زمن حافظ وبشَّار الأسد؛ حيث روى كثير من الطُّلَّاب أنَّ الطَّالب الأوَّل على الدَّفعة أو المعيد أو المبتعث الأوَّل من القسم يُعرف منذ الشُّهور الأولى في السَّنة الأولى من خلال علاقته بالأساتذة المتنفِّذين داخل القسم أو الكلِّيَّة، وفي غالب الأحيان يحرم هذا الطَّالب بعلاقته المشبوهة مع المتنفِّذين زملاءه الآخرين الأقدر منه عن الحصول على تلك البعثة أو المرتبة؛ ومن هنا تأتي أهمِّيَّة تجربة جامعة حلب في مكافحة الفساد في أقسام الجامعة كلِّها، ومكافحة الفساد عمليَّة طويلة ومنظَّمة لكنَّها ستعيد الأمور إلى نصابها، وسوف تضع النُّقاط على حروفها، وفي غالب الأحيان سوف تتوسَّع؛ ولأنَّ الفاسدين شبكة كبيرة، فسوف تكشف عن عقود مزوَّرة ورواتب وهميَّة ومناقصات مشبوهة ورشوات وما إلى ذلك من أبواب الفساد الكثيرة.

أعتقد-في الخطوة الإصلاحيَّة المرحليَّة الأولى-أنَّ الأساتذة الجامعيِّين المشرفين على القسم الواحد داخل كلِّ كلِّيَّة هم الأقدر على تطوير التَّعليم في الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة من خلال وقوفهم على حاجات طالب القسم من العلوم والفنون والمهارات؛ وهذا يقود إلى تطوير المناهج وتحديثها المستمرِّ داخل كلِّ قسم بالإضافة إلى استحداث الأقسام الجديدة داخل كلِّ كلِّيَّة بدلًا من جمع الأقسام المتعدِّدة في كلِّيَّة الشَّريعة.

أمَّا الخطوة الإصلاحيَّة التَّعليميَّة والاستراتيجيَّة بعيدة المدى، وهي الأهمُّ من وجهة نظري؛ فتتمثَّل برعاية الموهوبين وتحديد مواهب الطُّلَّاب ومجالات شغفهم في مرحلة التَّعليم الابتدائيِّ، ومن يتأكَّد تفوُّقه في المرحلة الإعداديَّة، ويتوافق هذا التَّفوُّق مع مجال شغفه يمكنه الدُّخول إلى مجاله منذ المرحلة الثَّانويَّة؛ أي نوجِّهه نحو الاختصاص قبل التَّعليم الجامعيِّ بثلاث سنوات تقريبًا؛ وعلى سبيل المثال من تثبت كفاءته العالية جدًّا من الطُّلَّاب وبعد اختبارات نزيهة في المرحلة الإعداديةَّ يمكن فرزه إلى مدارس ثانويَّة مختصَّة بالعلوم الحيويَّة إن كان يرغب بدارسة الطِّبِّ أو الصَّيدلة أو علوم الوراثة والكيمياء الحيويَّة وما إلى ذلك؛ ولا شكَّ أنَّ مثل هذا الطَّالب سيكتسب مهارات علميَّة وحيويَّة مهمَّة جدًّا تساعده كثيرًا عند الانتقال إلى كلَّيَّة الطِّب أو الصيدلة أو غيرها. ومن تظهر كفاءته في الرِّياضيَّات والهندسة يمكن فرزه إلى مدارس علميَّة تركِّز على هذه المجالات، ومن لديه ميل تجاه الفلسفة والمنطق والعلوم الاجتماعيَّة يتَّجه نحو هذه المجالات، ويمكن أن تكون السَّنة الأولى في المرحلة الثَّانويَّة سنة شهادة تكميليَّة متمِّمة للشَّهادة الإعداديَّة؛ أي يُفرز الطُّلَّاب بعد الانتهاء منها إلى مدارس ثانويَّة تمهيديَّة مختصَّة تساعدهم على التَّفوَّق في دراستهم الجامعيَّة.

بقي أن نشير إلى أنَّ القضاء على البطالة وتوفير فرص العمل مع رفع مستوى دخل الفرد مجموعة من عوامل الحسم المهمَّة، الَّتي تؤثِّر على ميول الطُّلَّاب واتِّجاهاتهم، فلو كانت فرص العمل متوفِّرة للمدارس الاختصاصيَّة المنشأة، ولو كانت الرَّواتب متقاربة سيتَّجه الطُّلَّاب نحو دراسة رغباتهم بما يتلاءم مع ذكائهم وتفوِّقهم أيضًا، وهنا تأتي مهمَّة الدَّولة في إنشاء مدارس ثانويَّة جديدة مختصَّة بالعلوم الحيويَّة لاستيعاب المتفوِّقين، ويمكن إنشاء مدارس ثانويَّة تعلَّم الحسابات الهندسَّة والبرمجيَّات، ويمكن إغلاق بعض المدارس الصِّناعيَّة أو الفنِّيَّة الَّتي سترفد المجتمع بعدد فائض عن حاجته من الخرِّيجين؛ فما فائدة تخريج آلاف الصِّناعيِّين ونحن نحتاج ألفًا أو ألفين؟ وما فائدة تخريج عشرات الآلاف من طلَّاب هذا الاختصاص أو ذاك والمجتمع لا يحتاج إلَّا بعض المئات منهم؟ وهنا يأتي دور الخبراء الاستراتيجيِّين المتعاونين مع الحكومة؛ أولئك الَّذين يقرؤون الإحصائيَّات خلال عقود من الزَّمن، ويعرفون حاجات المجتمع خلال السنوات القادمة من الاختصاصات القديمة وحاجاته من الاختصاصات الجديدة أو النَّاشئة؛ ليغلقوا بعض المدارس والاختصاصات، ويجدِّدوا بعضها، ويفتتحوا بعضها الجديد الآخر.

زر الذهاب إلى الأعلى