معاً.. كما كنا سنبقى: تفجير مار الياس ومسيحيو الشرق
هل هناك خيوط متصلة بسياسات دولية تتعلق بمصير مسيحيي الشرق؟

مصطفى عبد الوهاب العيسى – العربي القديم
شكلت التعددية في منبع الحضارات ومهد الرسالات السماوية لوحة جميلة ودرساً للعالم أجمع في المحبة والجيرة، وعلى أرض سوريا التاريخية عاش المسلمون والمسيحيون ومعهم أتباع الديانات والطوائف المختلفة قروناً طويلة في تسامح ووئام، ولا يمكن وصف العلاقات الإنسانية والأخلاقية التي جمعتهم وترسخت بالمصير المشترك الذي لا يزال رابطاً متيناً لكل السوريين.
مر أكثر من عقد من الزمن ونحن نشهد حملات من الهجوم الممنهج على السُّنة، ووسمهم بالإرهاب من قبل المتطرفين، وفي المقابل لم تسلم الطائفة العلوية من الهجمات المضادة ووصف أبنائها بالشبيحة والمجرمين، واتهامهم جميعاً إلى جانب الشيعة بأنهم حاضنة النظام السابق والداعمون له.
بطبيعة الحال لم يسلم الكرد أيضاً من حملات الشوفينيين الذين اتهموهم تارة بالانفصال، وتارة أخرى وصفوهم بالمهاجرين الغرباء، وكذلك أبناء الطائفة الدرزية الذين تعرضوا لتهم كيدية وافتراءات مغرضة تعبر عن بذاءة المتعصبين وحقارتهم.
أولئك الساعون لإشعال نار الفتنة بين مكونات المجتمع السوري، وتمزيق نسيجه الوطني والإنساني، كانوا – لأسباب متعددة – يتجنبون مهاجمة المسيحيين، ولم يكن ذلك بدافع المحبة أو الاحترام، بل لأن المسيحيين بشكل عام فرضوا هذا الاحترام على إخوتهم السوريين من مختلف المكونات بفضل سلوكهم المتزن ومواقفهم الوطنية.
بدأت هجرة المسيحيين منذ عدة عقود، وازدادت وتيرتها مع مطلع القرن الحادي والعشرين، ثم تسارعت بشكل غير مسبوق مع انطلاق الثورة السورية، وهذا موضوع واسع لا يسعنا الخوض في تفاصيله الآ، لكن الشاهد الأبرز هو أن أعداد المسيحيين قد تقلصت بشكل كبير، وخلال الخمسة عشر عاماً الماضية كان المسيحيون – باستثناءات نادرة لا تمثلهم – من أكثر المكونات السورية بعداً عن الانخراط في الصراع المسلح، ونأوا بأنفسهم عن العنف والانقسام.
انتهج المسيحيون – إلى حد بعيد – سياسة الحياد الإيجابي والابتعاد عن الرذائل التي أفرزتها الحرب، وحرصوا على أن يكونوا على مسافة واحدة تقريباً من جميع الأطراف المتصارعة، وكان الموقف الشعبي المسيحي تماماً كالموقف الكنسي الرسمي يدعو على الدوام إلى السلم الأهلي والتأكيد على العيش المشترك، واتجهوا بشكل أكبر إلى الأعمال الخيرية والمجتمعية، وهو ما أكسبهم محبة واحترام الجميع أفراداً وكيانات.
أما أولئك الذين اضطرتهم الحرب إلى الهجرة فلا يزالون حتى اليوم يحلمون بالعودة إلى وطنهم ليعيشوا جنباً إلى جنب مع إخوتهم من المكونات السورية، وكلمة حق أقولها هنا: لا يحق لأحد أن يزاود على وطنيتهم، فرغم مرارة الغربة وطول سنينها لم يتخلوا يوماً عن أداء واجبهم تجاه وطنهم، وشاركوا أبناءه في الأفراح والأتراح، وظلت سوريا حية في قلوبهم، وظلوا أوفياء لها.
تفجير جبان وعمل شائن أودى بحياة مدنيين أبرياء ومسالمين رحلوا إلى السماء في عيد القديسين، وكأنهم قديسون جدد ارتقت أرواحهم في جريمة بشعة هزت ضمائر السوريين جميعاً قبل أن تحرق قلوب المسيحيين الذين كانوا يؤدون صلواتهم في كنيسة مار الياس في منطقة دويلعة بريف دمشق.
نستنكر بأشد العبارات هذه الأعمال الإرهابية التي تهدد أمن البلاد واستقرارها، ولا سيما في هذه المرحلة الحرجة والدقيقة التي تمر بها سوريا، ونجدد دعوتنا للجميع بتحمل المسؤولية الوطنية، والابتعاد عن الاصطفافات والتجاذبات الطائفية والمناطقية التي لا تنتج إلا الفتنة، ولا تؤدي إلا إلى المزيد من الأعمال الإرهابية المتطرفة التي تحصد الأرواح هنا وهناك، وتفاقم التوتر الذي ينتج ما هو أسوأ في قادم الأيام، ولا بد أن تكون هذه الجريمة النكراء دافعاً إضافياً لتعزيز تماسك السوريين وتلاحمهم، ورفض كل أشكال العنف والإرهاب الدموي والفكري، والتأكيد على أن وحدة السوريين بكل أطيافهم هي السبيل الوحيد نحو الخلاص والاستقرار والعبور لمستقبل أكثر أماناً وأفضل حالاً.
قبل الختام، أود أن أبتعد قليلاً عن منفذي الهجوم ومن يقفون خلفهم، مع التأكيد والمطالبة بإجراء تحقيق شفاف، ومحاكمة عادلة، وإنزال أشد العقوبات بكل من يثبت تورطه في هذا التفجير الآثم، ولكن من حقنا أن نطرح الكثير من الأسئلة التي تتجاوز حدود الفصيل أو التنظيم الذي تبنى أو سيتبنى الجريمة.
من المستفيد الحقيقي من هذا التفجير؟ ولماذا في هذا التوقيت بالذات؟ وهل يقف خلفه ما هو أعمق من تفجير إرهابي؟
هل هناك خيوط متصلة بسياسات دولية تتعلق بمصير مسيحيي الشرق؟ أم أن هذه الجريمة تمثل حلقة إضافية في مسلسل طويل يسعى إلى تفريغ المنطقة من المسيحيين، وترويعهم ودفع من بقي منهم نحو الهجرة؟
إن ما جرى – برأيي – ليس حدثاً عابراً، بل هو أكثر تعقيداً وعمقاً، ويتطلب قراءة موضوعية شاملة لاكتشاف السياقات والخلفيات وفهم الأبعاد التي تتجاوز سطح وظاهر الجريمة إلى عمقها الاستراتيجي والإنساني.
أقف بخجل أمام دموع أُمٍّ أشعلت شمعة في الكنيسة، وبخشوع أمام دعاء صامت تشاركته مع صديقة غالية في غياب موجع، وبألم العاجز عن فعل شيء أمام حزن نبيل عبًّر عنه جار وكهل وقور.
أقف متضامناً مع الطفل الذي خاف، والأخ الذي فُجع، وأقف احتراماً لنظرات إيمان في وجه راهبة، وعزيمة وقوة في حديث خوري، ومع كل قلب مسيحي وسوري نزف ألماً قائلاً: هذه الآلام ليست خاصة بدين أو طائفة أو فئة، بل هي جرح في قلب سوريا كلها.
لكم كل التضامن وكل العزاء الصادق من قلب يؤمن أن ما يجمعنا من إنسانية وحب أسمى من كل الفتن ، وأبقى من كل محاولات التفرقة، ومعاً كما كنا سنبقى.