السلمية ومصياف والقدموس… ثلاثي الوعي والهوية السورية الخالصة
هذه المدن بكل ما تحمله من إرث فكري وأخلاقي، ليست مجرد نقاط على الخارطة، بل ضوءٌ في زمن العتمة

بلال الخلف- العربي القديم
في قلب المشهد السوري المليء بالتحولات، هناك مدن لا تزال تحمل في ثناياها روح البلاد الحقيقية، مدنٌ كانت وما زالت سورية بامتياز، حافظت على نسيجها الوطني ونبذت الطائفية، ورفضت أن تُختزل في انتماء ضيق أو تُدجَّن في زوايا السياسة العابثة. السلمية، مصياف، والقدموس… هذه ليست مجرد أماكن على خارطة الوطن، بل محطات للوعي، ومرايا تعكس أصالة السوريين حين يكون الانتماء للأرض سابقًا لكل التصنيفات.
كيف تكون سوريًا كما ينبغي؟
في هذه المدن، لا يُنظر للإنسان من زاوية طائفته، ولا تُفرَز المواقف على أساس الشعارات المستهلكة. السلمية، بتقاليدها الفكرية الممتدة من فكر إسماعيليها الحر إلى اشتباكها العميق مع القضايا الكبرى، لم تكن يومًا إلا منبرًا للعقل والتعددية. مصياف، بتاريخها الحافل بالمعرفة والانفتاح، ظلت عصيةً على الانغلاق رغم كل محاولات العزل والتجيير. والقدموس، المعلقة بين الجبال، لم تكن إلا نافذة للروح السورية المتطلعة دومًا إلى الأفق الأوسع، حيث لا يُحدّ الفكر بجدرانٍ ضيقة.
في هذه المدن، لم يكن الانتماء عبئًا يُفرض، بل وعيًا يُكتسب. لم يكن التاريخ مجرد سرديات محنطة، بل وعيًا يتحرك نحو المستقبل. كان السوري هناك يعرف تمامًا كيف يكون سوريًا دون أن يحتاج لتعريفات مستوردة، أو أن يبحث عن هوية تُلصق به قسرًا.
الحكمة في التعامل مع الجنون
ولأن هذه المدن كانت أكثر وعيًا، كانت تدرك أن الجنون الطارئ على المشهد ليس سوى ظاهرة عابرة، وأن بعض التهور الذي أصاب أفرادًا يرتدون البزة العسكرية لا يمثل إلا أنفسهم، تمامًا كما لا تمثل الشوائب ماء النهر العظيم. لم تحتَج السلمية، ولا مصياف، ولا القدموس إلى صراخ أو تهويل لحل إشكالاتها، فقد كان لديها من الحكمة ما يكفي لتطويق الفوضى دون أن تفتح أبواب الخراب.
كانت تعرف أن الوطن ليس ساحة لتصفية الحسابات، ولا حلبةً لاستعراض القوة، بل هو فضاء للحوار والتعايش، وأن كل خلاف يُحَلُّ بين أهله قبل أن يتحول إلى وقود لنار لا ترحم أحدًا. ولذلك، كانت هذه المدن تحلّ مشكلاتها بأرضها، بلا تضخيم ولا جعجعة، لأن من يملك الوعي يملك الحل، ومن يملك الحل لا يحتاج إلى العنف.
كرمٌ بحجم سوريا كلها
ولأنها لم تكن يومًا إلا جزءًا من الكل، كانت هذه المدن، ممثلةً بإمامتها الروحية رحيم آغا خان، سباقةً إلى الفعل بدلًا من الاكتفاء بالكلام. ففي مؤتمر المناخين في بروكسل، لم تأتِ فقط بكلمات منمقة أو وعود فارغة، بل كانت هناك لتقدم ١٠٠ مليون دولار للتنمية في عموم سوريا، لا لمدينة دون أخرى، ولا لفئة دون سواها. هذا هو الوجه الحقيقي لهذه المدن، هذا هو الامتداد الطبيعي لفكرها، حيث التنمية تُطرح كبديل للخراب، وحيث اليد تُمدّ بالعطاء لا بالخذلان.
السلمية، مصياف، والقدموس… صوت سوريا النقي
هذه المدن بكل ما تحمله من إرث فكري وأخلاقي، ليست مجرد نقاط على الخارطة، بل ضوءٌ في زمن العتمة، وشاهدٌ على أن سوريا لم تكن يومًا لونًا واحدًا، ولا صوتًا واحدًا، ولا فكرةً واحدة. كانت وما زالت فسيفساء لا تكتمل إلا بكل أجزائها، ومدن الوعي هذه هي أكثر من مجرد ألوانٍ في اللوحة، إنها الإطار الذي يجعل اللوحة واضحةً وصادقة.
ولأنها كذلك، فإن حبها ليس خيارًا، بل ضرورة. لأن في حبها حبًّا لسوريا التي كانت، والتي يجب أن تعود.