العربي الآن

تحالف الضرورة: نحو تأطير لنظرية التحالفات العدائية في العلاقات الدولية

"تحالف الضرورة" لا يقوم على مفهوم العدو باعتباره نقيضاً محضاً، بل على العكس: يُعاد إنتاج العدو أحياناً بوصفه شريكاً وظيفياً

عدي شيخ صالح – العربي القديم

في هذا المقال، نطرح نظرية جديدة لفهم التحالفات التي تنشأ بين خصوم ظاهرين، وتقوم على توازن دقيق بين العداء والإفادة المتبادلة. نسمّي هذا النمط بـ “تحالف الضرورة”، وهو نوع من العلاقات السياسية المعاصرة يُبنى على الشك، لا الثقة، وعلى التناقض في الخطاب، لا التوافق، ويُستخدم فيه العدو كأداة للاستقرار بدلًا من كونه خطرًا للإنهاء.

  • أولاً: تعريف النظرية

تحالف الضرورة هو نمط من أنماط العلاقات السياسية يُبنى على وجود عداوة ظاهرية ووظيفة استراتيجية باطنية، يتعاون فيها خصمان – أو يجنّب أحدهما الآخر السقوط – من دون اعتراف رسمي أو تنسيق معلن، بهدف حفظ توازنات داخلية أو خارجية، أو تصفية تهديدات مشتركة، أو ضمان استمرار النظامين دون انتصار أحدهما على الآخر.

  • ويمتاز هذا التحالف بعدة سمات:

أنه غير معلن ويجري غالبًا عبر وسطاء أو ترتيبات أمنية غير مباشرة؛

  • يُستبقى فيه الخطاب العدائي لتغذية الشرعية الداخلية للطرفين؛
  • لا يهدف إلى نصر نهائي، بل إلى إبقاء الآخر في حالة من التهديد المحدود؛
  • ويُدار الصراع فيه لا لحسمه، بل لاستخدامه في هندسة الداخل أو استثمار الفوضى.

ثانيا : السياق  الفلسفي لنشأة المفهوم

في الفلسفة السياسية، لطالما كان مفهوم العدو حاضرًا باعتباره نقطة ارتكاز لفهم الدولة والسلطة. منذ “كارل شميث” الذي رأى أن السياسة تقوم على التمييز بين الصديق والعدو، إلى فوكوياما الذي تحدث عن “نهاية التاريخ” في ظل التكتلات الليبرالية، ظلّ العدو جزءًا من وظيفة الدولة، لا مجرد خصم خارجي.

لكن “تحالف الضرورة” لا يقوم على مفهوم العدو باعتباره نقيضًا محضًا، بل على العكس: يُعاد إنتاج العدو أحيانًا بوصفه شريكًا وظيفيًا، أو شرًا ضرورياً، لا يُلغى بل يُدار.

تأتي هذه النظرية في ظل عالم ما بعد الحقيقة، حيث لا قيمة للقيم إن لم تخدم المصالح، وحيث تتجاوز التحالفات حدود العقيدة، والمواقف، وحتى الدماء. نحن أمام عصرٍ الوظيفة فيه أهم من الهوية، و”العدو” قد يصبح أنفع من الحليف، إذا خدم وجود السلطة، أو هدد البدائل الشعبية.

 ثالثاً: الفرق بين تحالف الضرورة والتحالف البراغماتي

رغم التشابه في بعض المظاهر، فإن “تحالف الضرورة” يختلف جوهريًا عن التحالفات البراغماتية التقليدية:

  • الوجه   : تحالف الضرورة        
  • الشكل : غير معلن – ضمني    
  • الخطاب : الإعلامي يستبقي العداء الظاهري      
  • الهدف : منع الانهيار الداخلي أو تهديد مشترك   
  • العلاقة : تنسيقية عبر وسطاء أو تجاهل متبادل   
  • النفي /العلني :   دائم – كل طرف ينكر العلاقة
    • الوجه : التحالف البراغماتي :
  • الشكل : معلن – رسمي غالبًا
  • الخطاب الإعلامي : يبرر التعاون بوضوح
  • الهدف : مصالح اقتصادية أو أمنية
  • العلاقة : تعاون مباشر
  • النفي /العلني :لا حاجة للنفي غالبًا

وبالتالي، فإن تحالف الضرورة هو نمط متقدم وأكثر التواءً من التحالف البراغماتي، ويقع غالبًا بين الحرب الباردة والسلام المعلن

رابعاً: من توصيف الظاهرة إلى تأسيس نظرية

ما يميز “تحالف الضرورة” عن غيره من المفاهيم التحليلية، هو قابليته للتنظير الصارم والقياس المقارن. فالمصطلح لا يكتفي بوصف علاقة مؤقتة بين خصمين متظاهرين بالعداء، بل يقدّم نموذجًا يمكن تعميمه وتحليله عبر خمس مرتكزات نظرية تمكّن من رصد الحالات المماثلة عبر التاريخ والسياسة:

  •  المرتكزات النظرية لتحالف الضرورة:
  • كأداة شرعية :

العدو ليس هدفًا للإقصاء التام، بل يُستخدم كأداة داخلية لتثبيت الشرعية وبناء الحاجة إلى “المنقذ”.

  • النظام السياسي يُعيد إنتاج وجوده عبر العداء، لا عبر السلام.
  • المصلحة تتقدم على العداء :

يُدار العداء من موقع حسابي عقلاني، حيث تتفوق المصالح الاستراتيجية على التناقضات العقائدية أو الشعارات الأيديولوجية.

  • الخطاب يصطدم، لكن الأجندات تتقاطع.
  • العدمية المُعلنة، والتنسيق الضمني :

لا وجود لمعاهدات أو قنوات تنسيق رسمية، لكن هناك نمطًا من السلوك المتناغم الضمني، كأن كل طرف يعرف حدوده في إضعاف الآخر دون القضاء عليه.

  • كلا الطرفين يُمسك برقبة الآخر… دون أن يقطعها.
  • اغتنام الفراغ الداخلي :

تُستغل التهديدات والضربات “العدائية” لتصفية الحسابات الداخلية، إذ يسمح كل طرف للآخر بتوليد ضغط يخدم حسم الصراعات داخل النظام.

  • رصاصة العدو تخدم إقصاء الشريك في الحكم أو خصم الوريث.
  • الفوضى الخاضعة للرقابة :

يُبقى العدو في حالة من الفوضى المستمرة، لكنه لا يُدفع إلى الانهيار الكامل. يُسمح له بالتصعيد المؤلم… بشرط أن يبقى حيًا.

  • التوازن بين الردع والإبقاء على التهديد.

خامساً:  جذور المفهوم في التاريخ

رغم أن النظرية بصيغتها الحالية جديدة، إلا أن جذورها تمتد إلى وقائع تاريخية معقدة:

  • تفاهم الكنيسة مع النازية في بدايات الرايخ الثالث.
  • تحالف واشنطن وموسكو ضد هتلر، رغم صراعهما الأيديولوجي.
  • دعم الولايات المتحدة للمجاهدين في أفغانستان ضد السوفييت، رغم إدراكها لاحقًا لتبعات هذا الخطاب الأصولي.

لكن الفارق هو أن تلك التحالفات كانت معلنة ومؤقتة، بينما “تحالف الضرورة” كما نُعرّفه هنا، هو علاقة ضمنية، ممنهجة، طويلة الأمد، تُبقي العدو مفيدًا لا منتصرًا

سادسا : متى لا ينطبق مفهوم تحالف الضرورة؟

حين تصبح العلاقة مجرد لجوء سياسي أو تعايش قانوني في المنفى دون مصالح متبادلة أو تنسيق غير مباشر، هنا لا نكون أمام تحالف ضرورة، بل حالة نفعية من طرف واحد.

  • خاتمة:

إن نظرية “تحالف الضرورة” لا تبرّر الخيانة، ولا تسوّغ الانتهازية، لكنها تُعيد قراءة ورؤية العالم عبر عدسة واقعية تُدرك أن العداء ليس دائمًا حقيقيًا، وأن الخصوم الظاهرين قد يكونون – بحكم الضرورة – أدوات بعضهم البعض.

زر الذهاب إلى الأعلى