فنون وآداب

يهوذا لم يخن المسيح: عاموس عوز في رواية تقدم رؤية مختلفة للتاريخ!

العربي القديم – أحمد عسيلي  

بالرغم من أن الحديث عن إسرائيل يكاد يكون بشكل شبه يومي  في حياتنا العادية، وتأثيرها الكبير في ماضينا القريب وحاضرنا، بل وفي كل خطاباتنا وأجنداتنا السياسية، فإننا لا نكاد نعرف عنها شيئاً، ولن أكون مبالغاً، إذا قلت: إن معلوماتنا عن هذا الكيان، (حتى المثقفين منا) لن تزيد عن صفحة واحدة، ربما نعرف أنها دولة احتلال قوية، ديمقراطية على المستوى الداخلي، ربما نعرف أسماء بعض المتطرفين فيها، ثم لا شيء أبعد من ذلك.

 لغتها شبه مجهولة، لا نعرف شيئاً عن مفكريهم وفلاسفتهم، ونجوم الفن والرياضة، ربما يبرر بعضهم هذا الجهل بالمقاطعة، لكن أليس ثمة فرق بين المقاطعة والجهل؟

حدث أدبي مميز

ضمن هذا السياق، تُعتبر ترجمة الروائي السوري المميز نزار آغري، لرواية عاموس عوز (يهوذا) حدثاً أدبياً مميزاً، فرغم الشهرة العالمية لعوز، وترجمة أعماله لعشرات اللغات، لا يوجد له سوى أعمال قليلة جداً مترجمة للغة الضاد، (أعتقد أن له روايتين فقط مترجمتين، والاثنتان صادرتان عن دار الجمل)، وحتى هذا العمل، جاء عبر لغة وسيطة، وهي الإنجليزية (مع أنه وحسب علمي، فإن آغري يتكلم العبرية، لكن ربما ليس لمستوى ترجمة عمل أدبي بمستوى رواية يهوذا).

الرواية جاءت في ٣٤٧ صفحة، صادرة عن دار الجمل في ٢٠٢٢، وتدور أحداثها بين عامي ١٩٥٩، و ١٩٦٠ في الكيان الناشئ حديثاً ذلك الوقت، ويحدد الكاتب الزمان منذ  السطر الأول من العمل.

 تتحدث الرواية، بكل بساطة عن شاب يُدعى شموئيل آش، طالب دراسات عليا، خجول، كان يحضر لنيل درجة الماجستير، عن بحث يتعلق بنظرة اليهود للمسيح عبر التاريخ. بحث طموح ربما سيشكل فارقة في التاريخ، حسب أستاذه المشرف، لكنه يعيش صدمة عاطفية بعد تخلي حبيبته عنه، وزواجها من شاب آخر، صدمة ستسبب له حالة من الضياع واليأس،  فيقرر فجأة التخلي عن طموحه، رغم شغفه الشديد ببحثه الأكاديمي هذا، وبالمصادفة يجد إعلاناً في الجامعة، عن حاجة عائلة لشاب ليعمل كجليس؛ لتسلية رجل كبير في السن، ولأنه محبط جداً،  وتائه ومفلس، بعدما تعرض أبوه لعملية نصب أفقدته كل أمواله، فقد قرر التقديم لهذه الوظيفة، فهي على الأقل تؤمن له مكاناً للسكن، بالإضافة إلى المعيشة وراتب بسيط.

رواية الحوار لا الأحداث 

تبدأ الأحداث الجدية، منذ لحظة استلامه لهذه الوظيفة، ونشوء علاقة حب مع الفتاة التي وظّفته، وخوضه لنقاشات مطولة مع هذا العجوز. نكتشف لاحقاً أن لهذا العجوز ابناً مات في حرب ٤٨، وكان متطوعاً، لدى إحدى الميليشيات الصهيونية، ومن ترعاه هي زوجة ابنه القتيل، ومع تطور الرواية نعرف أن والد هذه الزوجة، (والتي تُدعى أتاليا)، قد طُرد من الوكالة الصهيونية؛ لأنه كان ضد إنشاء دولة إسرائيل، وكان يفضّل دولة واحدة مشتركة مع العرب، وبقي كل حياته ضد الاحتلال الإسرائيلي لأراضي الآخرين.

إذن، الرواية أحداثها بسيطة جداً، وهي أصلاً رواية لا تقوم على  الحدث، وإنما على الحوار، لتتقاطع كأسلوب أدبي في الكثير من فصولها مع المسرح،  فهي مجرد حوارات  مطولة  يخوضها شموئيل، من جهة مع العجوز، ومن جهة أخرى مع أتاليا، وبعض  الحوارات بين أتاليا، ووالد زوجها.

زمن  الرواية أوائل الستينات، قبل نكسة حزيران، حين كان السؤال: “لماذا أقمنا هذه الدولة، وإلى متى سنستمر؟”، مازال طرياً. نتعرف من خلال قصة شموئيل، وهذا العجوز على بنية المجتمع الإسرائيلي، على التركيبة السياسية والعسكرية والاجتماعية، على مخاوفهم من المستقبل، وإحساس بعضهم أنهم (تورطوا) في هذه الدولة. لكن ما علاقة كل ذلك بيهوذا؟

هو أبرافانيل والد الزوجة الصهيوني الوحيد  الذي رفض تأسيس دولة إسرائيل،  وقف أمام آراء جميع أعضاء الوكالة اليهودية، والمنظمة الصهيونية العالمية، وقال لا لتأسيس دولة إسرائيل؛ لأن تأسيسها سيجر الويلات على العرب واليهود معاً، وسيتسبب بمقتل الآلاف من الطرفين، لذلك نبذه الجميع، وطردوه من جميع المجالس الإدارية لتلك المنظمات، وعدّوه رمزاً للخيانة، لكنه الوحيد ربما الذي رأى الواقع، وآمن بشعبه اليهودي، ولم يكن يريد له هذه الحروب.

يهوذا لم يخن المسيح

هنا يشبّه الروائي أبرانافيل بيهوذا، فحسب قراءته أن يهوذا لم يكن خائناً للمسيح، فهو رجل أعمال ثري لم يكن بحاجة لقطع الفضة تلك؛ كي يدلهم على معلمه، وهم أصلاً لم يكونوا بحاجة لمن يدلهم عليه، فالمسيح كان بينهم، لكن يهوذا هو الوحيد الذي آمن بالمسيح، وكان يعتقد أن وجوده على الصليب ضروري جداً، ليراه جميع الناس، وهو يخلص نفسه من الصليب، في معجزة إلهية كان قد قام بما يشبهها قبلاً  عشرات المرات، بل وأقوى منها (ألم يحيي الموتى)، لكن يهوذا كان يريد أن يرى الجميع هذه المعجزة، وربما حتى المسيح، (وفق رؤية الروائي) كان يعتقد أن أباه سينجيه، هنا ربما نفهم صرخته الأخيرة على الصليب: (إلهي لما شبقتني)، أي لما تركتني، وحين لم تحدث المعجزة، عاش يهوذا  صدمته، تلك الصدمة التي دفعته للانتحار، بعد عدة أيام من الصلب، (حسب الرواية المسيحية للأحداث).

رؤية جديرة بالتأمل، وخاصة أن يهوذا فعلاً انتحر بعد عدة أيام، وفعلاً لم يكن بحاجة لعدة قطع من الفضة للخيانة؛ لأنه رجل أعمال ثري،  بل لم يكن بحاجة ليدلهم على المسيح، فالكل يعرفه ولم تكن تحركاته سرية.

ما الرابط بين يهوذا وأبرانافيل؟

أبرانافيل هذا الذي أصبح في المجتمع الإسرائيلي رمزاً للخيانة، يشبه كثيراً اليهودي الآخر الذي أصبح من وجهة نظر المسيحيين رمز الخيانة  أيضاً، فهو اليهودي الذي باع المسيح، رغم أنه هو الأشد إيماناً به، لكن التاريخ احتقره جداً. ابرانافيل كان خائناً بنظر جميع مواطنيه، بل واتهموه، بأنه كان يقبض الأموال من العرب؛ ثمناً لخيانته. الاثنان كانا مؤمنين بقضيتهما، لكن مع بعد النظر، والاثنان كان لهما  النهاية المأساوية نفسها، فأبرانافيل أمضى  بقية حياته معزولاً في غرفته، يسجل مذكراته التي أحرقها، قبل وفاته؛ كي لا يترك أي شيء، سوى ذكرى ملطخة بعار الخيانة، لم يحاول حتى الدفاع عن نفسه، (تماماً كما فعل جده يهوذا من قبل، فهو أيضاً لم يترك أي أثر شفهي، أو كتابي؛  لتبرير موقفه، أو  ربما فعل، لكنها اختفت، كما تختفي دوماً  أقوال المهزومين).

الرواية غنية جداً بالكثير من الحوارات، فيها نقد جريء، وجديد جداً لكل التاريخ والحاضر العبري، تمثل وجهة نظر ثلاث شخصيات، العجوز المؤيد للصهيونية، المدافع تماماً عن فكرة تأسيس إسرائيل والحرب، والمؤمن بأن الحرب، رغم أنها اخذت ابنه الوحيد، لكن ليس لليهود خيار آخر، تماماً مثل أهل فلسطين، الذين ليس لهم خيار آخر، فيقول في إحدى محاوراته مع شموئيل: (كان والد أتاليا يحلم أن العرب واليهود،  سيحب بعضهم بعضاً، إذا زال سوء التفاهم بينهم، لكنه كان مخطئاً، لم يكن هناك ولا يوجد أي سوء تفاهم بين العرب واليهود، بالعكس تماماً، فعلى مدى عقود كان لهم فهم كامل وشامل. يتمسك العرب المحليون بهذه الأرض؛ لأنها أرضهم الوحيدة، وليس لديهم غيرها، ونحن نتشبث بهذه الأرض للسبب نفسه. إنهم يعلمون أننا لا يمكن لنا أن نتخلى عنها أبداً، ونحن نعلم أنهم لن يتخلوا عنها أبداً. التفاهم المتبادل واضح تماماً، لا يوجد سوء فهم بيننا ولن يحدث قط).

 بينما يعبر شموئيل عن خوف الكثير من الإسرائيليين من المستقبل، ويذكر أثناء حواراته مع العجوز مخاوفهم  من فكرة الجندي الحادي عشر، وهي قصة تقول: إنه حين هجم ستالين على فنلندا، ذهب رئيس الأركان الفنلندي لطمأنة رئيس البلاد، بأن  الجندي الفنلندي أقوى من الفلاحين الروس، وأن كل جندي فنلندي قادر على هزيمة عشرة روس، فهز الرئيس كتفه، وقال له: ربما معك حق، ربما يكون  الجندي الفنلندي قادراً على هزيمة عشرة جنود سوفييت، لكن ماذا لو جاءنا ستالين بأحد عشر جندياً؟

الكثير من الصهاينة يعرفون أنهم بأسلحتهم المتطورة، وبدعم الغرب لهم قادرون حالياً على هزيمة الشعوب المحيطة بهم، لكن يصرخ شموئيل: “إلى متى؟”، هل يمكن لهذه الملايين القليلة هزيمة عشرات الملايين المحيطين بهم  إلى الأبد؟

في حوارات شموئيل، والعجوز وتاليا، في قصة الزوج الذي تطوع بالحرب رغم مرضه،  في تطرف العجوز لموقفه من الحرب، رغم خسارته لابنه الوحيد، في يسارية شموئيل، وتأييده لحل سلمي، ولكن أيضاً في رعاية تاليا لحماها العجوز، رغم اختلاف وجهات نظرهم السياسية حد التناقض والنفور،  نلمس موقف  عاموس عوز التائه بين تلك الأصوات، ونفهم أكثر الحرب، كما يراها الطرف الآخر، سواء المتشدد منهم بعداوته مع  العرب، أو المؤيد لحل  الدولتين.

رواية  مهمة جداً، (كمعظم روايات عوز)، قراءتها ضرورية لكل من يود أن يفهم بشكل أدبي ومبسط، المجتمع الإسرائيلي، بجوانب قوته وضعفه، ويفهم مخاوفه وربما جبروته، وليفهم أكثر هذا المأزق الذي وضعنا فيه “كلينا” الغرب.

زر الذهاب إلى الأعلى