كيف خدعتنا السوشيال ميديا؟ عندما تصبح الحقيقة وهماً
الحقيقة سواء كانت موضوعية أو ذاتية أو بناءً اجتماعياً، تتشابك وتتداخل في عالم السوشيال ميديا لتخلق واقعاً جديداً أقرب إلى الوهم

لارا المحمد – العربي القديم
في عصرنا الرقمي المتسارع حيث تتشابك خيوط الواقع بالافتراض، تبرز وسائل التواصل الاجتماعي كظاهرة كونية. هذه المنصات التي صُمّمت لتقريب المسافات، غدت ساحة تتجلى فيها أعمق التحديات الفلسفية التي واجهت الإنسان. إنها ليست مجرد أدوات بل مرايا تعكس، وأحياناً تشوه إدراكنا للعالم ولذواتنا. لقد شهدنا تحولاً جذرياً من الواقع المادي إلى واقع افتراضي تسيطر فيه الشاشات على حواسنا وعقولنا. فمن خلالها نرى، نسمع، نتفاعل، ونبني تصوراتنا. ولكن ماذا يعني هذا التحول لإدراكنا للحقيقة؟ هل ما نراه حقيقة؟ وهل ما نعيشه على هذه المنصات هو جزء أصيل من وجودنا، أم أنه مجرد انعكاس مشوه، أو ربما وهم محكم الصنع؟
الحقيقة والوهم في فضاء السوشيال ميديا
في الفضاء الرقمي يغدو مفهوم الحقيقة عرضة للتشويه. فالحقيقة سواء كانت موضوعية أو ذاتية أو بناءً اجتماعياً، تتشابك وتتداخل في عالم السوشيال ميديا لتخلق واقعاً جديداً أقرب إلى الوهم. يتم بناء هذا الواقع الافتراضي ببراعة، باستخدام الفلاتر وتعديل المقاطع لتقديم صورة مثالية بعيدة عن الواقع. هذا الوهم الجميل يغري العقول ويأسِر القلوب، ويجعلنا نلهث وراء سراب الكمال، مما يخلق ضغطاً نفسياً هائلاً ويدفعنا لمقارنة حياتنا بواقع افتراضي مزيف، مؤدياً إلى الشعور بالنقص والقلق والاكتئاب.
الأخطر هو تآكل الحقيقة الموضوعية بانتشار الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة. في عالم تتسارع فيه وتيرة نقل المعلومات، يصبح التمييز بين الصدق والكذب مهمة شاقة. تنتشر الشائعات بسرعة البرق، وتكتسب مصداقية زائفة، مما يؤثر على الرأي العام ويخلق بلبلة. هذه الظاهرة لا تهدد الأفراد فحسب، بل المجتمعات بأسرها، وتقوض الثقة، وتفتح الباب أمام التلاعب بالعقول. وتزيد ظاهرة فقاعات الفلتر وغرف الصدى الطين بلة. فبفضل الخوارزميات الذكية، يتم عزل المستخدمين في بيئات معلوماتية تعزز معتقداتهم الحالية. هذا يحد من تعرضنا لوجهات نظر مختلفة ويقوي الوهم بأن رأينا هو الصحيح. هذه الفقاعات تحول الفضاء الرقمي إلى سجون فكرية، حيث يعيش كل فرد في عالمه الخاص، مما يزيد من الانقسام والاستقطاب.
الإنسان في مواجهة الوهم الرقمي
في خضم هذا السيل من الصور المثالية يجد الإنسان نفسه في مواجهة أزمة هوية عميقة. فبينما يسعى لتقديم أفضل نسخة من ذاته على المنصات، غالباً ما تكون هذه النسخة مصقولة وبعيدة عن الواقع. هذه الصورة المثالية تخلق ضغطاً هائلاً، وتدفع الأفراد لمقارنة حياتهم بواقع افتراضي مزيف، مؤدياً إلى الشعور بالنقص وتآكل تقدير الذات واضطرابات نفسية. هذا الانغماس يحول الإنسان من كائن يفكر إلى مستهلك سطحي للمحتوى. فبدلاً من الغوص في المعرفة، يكتفي بالمرور السريع على العناوين، ويتحول إلى مستهلك نهم للمعلومات المجتزأة والترفيه السريع. هذا الاستهلاك يؤثر على عمق التجربة الإنسانية، ويحدّ من قدرة الفرد على التأمل والتفكير النقدي، ويجعله عرضة للتأثر بالآراء السائدة دون تمحيص. إنها عملية تحول تدريجي من الوجود الفاعل إلى الاستهلاك السلبي.
ولعل أخطر ما يترتب على هذا الوهم هو فقدان القدرة على التفكير النقدي. ففي عالم يتدفق فيه المعلومات بلا توقف، يصبح التمييز بين الحقائق والأكاذيب مهمة عسيرة. التدفق المستمر للمعلومات السريعة والمجتزأة، المصممة لإثارة المشاعر، يضعف القدرة على التحليل النقدي. يصبح الفرد أقل قدرة على التساؤل وتقييم المعلومات بموضوعية، مما يجعله فريسة سهلة للتضليل. إنها أزمة فكرية تهدد جوهر الوعي الإنساني.
الخلاص من الوهم: نحو وعي جديد
لا يزال هناك بصيص أمل للخلاص من الأوهام الرقمية، وأولى خطوات هذا الخلاص تكمن في العودة إلى الذات، في لحظات تأمل عميقة ووعي ذاتي يمكّن الفرد من التمييز بين ذاته الحقيقية والافتراضية. إنها دعوة للانفصال عن الضجيج الرقمي، والبحث عن السكينة في أعماق الروح، لإعادة اكتشاف القيم والمبادئ التي تشكل جوهر وجودنا الحقيقي. ولتحقيق هذا الوعي لا بد من تطوير مهارات التفكير النقدي والتحقق من المعلومات. ففي عصر تتسارع فيه وتيرة انتشار الأخبار، يصبح التفكير النقدي درعاً يحمي العقل من التضليل. يجب على الفرد أن يتساءل عن مصدر المعلومة، ويبحث عن أدلة، ويقارن بين وجهات النظر قبل أن يتبنى أي رأي. إنها مسؤولية فردية ليكون حارسًا على عقله ووعيه.
كما يتطلب الخلاص إعادة تعريف لمفهوم التواصل. فالتواصل الإنساني الحقيقي هو الذي يتم وجهًا لوجه، حيث تتلاقى الأرواح وتتبادل النظرات. إنه يبني جسورًا من التفاهم والتعاطف، ويغذي الروابط الإنسانية الأصيلة. يجب أن نعود إلى قيمة اللقاءات الحقيقية، والمحادثات العميقة، والتجارب المشتركة التي تثري الروح، بدلاً من الاكتفاء بالتفاعلات السطحية.
وأخيرًا، لا يمكن الحديث عن الخلاص دون التحرر من الإدمان الرقمي. فالسوشيال ميديا، بآلياتها المصممة لإبقاء المستخدمين، يمكن أن تتحول إلى إدمان يؤثر على الصحة النفسية والجسدية والعلاقات الاجتماعية. لذا، يجب وضع حدود واضحة لاستخدامها، وتخصيص أوقات محددة، والبحث عن أنشطة بديلة تعزز الوجود الحقيقي، مثل القراءة والرياضة والطبيعة والهوايات. إنها دعوة لاستعادة السيطرة على حياتنا، وعدم السماح للشاشات بسرقة لحظاتنا الثمينة في العالم الحقيقي.
دعوة إلى اليقظة
كما يتضح أن وسائل التواصل الاجتماعي بقدر إيجابياتها، تُخفي تحديات عميقة تُهدد إدراكنا للحقيقة ولواقعنا. لقد خدعتنا ببريقها، وحولت الحقيقة إلى وهم، وأغرقتنا في بحر من الصور المثالية. مسؤولية الخلاص تقع على عاتق الفرد والمجتمع. الفرد مدعو لليقظة وتطوير التفكير النقدي وإعادة تعريف التواصل الإنساني. يجب أن نتحرر من إدمان الشاشات ونعود لذواتنا الحقيقية.
أما المجتمع فعليه تعزيز الثقافة الرقمية الصحية ووضع أطر تحمي الأفراد من التضليل وتشجع الحوار. المستقبل الذي نطمح إليه يحافظ على قيمة الحقيقة والواقع، ولا يغرق فيه الإنسان في الأوهام. إنها دعوة لليقظة، لاستعادة زمام المبادرة، وبناء علاقة صحية مع التكنولوجيا. فالسوشيال ميديا أداة قوية، ولكنها يجب أن تظل أداة في أيدينا، لا سيداً يتحكم في عقولنا. فلنكن حراساً على حقيقتنا، ولنعمل معاً لبناء عالم لا تتلاشى فيه الفروق بين الظلّ والأصل، وبين الحقيقة والسراب.