الهوية البصرية السورية الجديدة: ثورة رمزية في وجه السخرية السطحية
المؤسف ليس أن بعضهم اختزلوا مشروعاً بصرياً وطنياً في شكل قنينة أو شعار مستورد، بل أنهم تجاهلوا اللحظة الرمزية التي يمثلها

بلال الخلف – العربي القديم
بعد سنوات من التشوه البصري الرسمي، وبعد عقود من الأختام والشعارات الثقيلة التي رافقتنا في بطاقات الهوية وواجهات الوزارات، خرجت بالأمس الهوية البصرية الجديدة لسوريا المستقبل. خرجت بهدوء، دون صخب دعائي، لكنها حملت في طياتها رسالة صاخبة لكل من يفهم لغة الرموز: صفحة جديدة تُفتح، وسطر أول يُكتب في كتاب مختلف تمامًا.
البعض، بطبيعة الحال، لم يرَ فيها أكثر من شكل. قالوا: “ما الفائدة من هذا التصميم؟ لا يسمن ولا يغني من جوع!”، وكأن كل إنجاز يجب أن يُقاس بعدد ربطات الخبز التي يوفرها، أو عدد الليرات التي يدخلها إلى الجيب. يغيب عن بال هؤلاء أن هناك جوعًا آخر لا يُسكت بالخبز، بل بالحلم، وبالإحساس بأننا بدأنا نخلع آثار السجن الرمزي الطويل.
من شكل الدولة إلى شكل الشعار
الهوية البصرية ليست لونًا ودوائر. إنها تصور متكامل لهوية الدولة نفسها: كيف تتحدث عن نفسها؟ كيف ترى ذاتها في المرآة؟ كيف تريد للعالم أن يراها؟ في زمن الاستبداد، كان الشعار ثقيلًا، صارخًا، صامتًا بقدر ما هو خانق. واليوم، نحن نطلّ على تصميم ناعم، حديث، متناغم، لا يصرخ بل يهمس: “نحن هنا… بشكل جديد”.
ومع ذلك، لم يتأخر بعض “المعارضين بالعادة” في صبّ سخريتهم المعتادة. واحد قال إنه يشبه عبوة شمبانيا، وآخر وجد فيه شبهًا بشعار ألمانيا الاتحادية، وثالث رأى أنه لا يليق بثورة. كل هذا لا يتعدى كونه قفشات فارغة، خالية من أي قراءة فنية أو ثقافية حقيقية.
السخرية المجانية… أم العجز عن الفهم؟
نتفهم النقد، بل نرحب به، حين يكون نقدًا تصميميًا حقيقيًا: ناقش الألوان، ركّب العناصر البصرية، حلل الخطوط والخلفية والدلالات. لكن أن يتحول النقد إلى حفلة سطحية من المزاح الباهت، فهذا لا علاقة له بالرأي ولا بحرية التعبير، بل هو ضرب من الكسَل الفكري.
فالمؤسف ليس فقط أن بعضهم اختزلوا مشروعًا بصريًا وطنيًا في شكل قنينة أو شعار مستورد، بل أنهم تجاهلوا اللحظة الرمزية التي يمثلها. لم يدركوا – أو لم يريدوا أن يدركوا – أن هناك من يعمل في صمت لخلق صورة دولة تستحق الاحترام، في الوقت الذي يكتفي فيه آخرون بالبحث عن أوجه التشابه مع علب المياه الغازية.
الهوية كبداية… لا كخاتمة
لا أحد يدّعي أن الهوية البصرية وحدها ستبني الدولة، أو أنها ستنهي الفقر، أو تعيد المهجّرين. لكنها رسالة. والرسائل، في بدايات الدول الجديدة، ليست رفاهية، بل ضرورة. هي أول حجر يُزرع في الوعي العام، ليبدأ الناس برؤية أنفسهم خارج إرث القمع والشعارات الأمنية. وهي أيضًا محاولة لزرع الجمال في عين شعب طالما اعتاد القبح المفروض عليه.
في النهاية، من لا يرى في هذه الهوية الجديدة سوى خطوط ورسوم، ربما عليه أن يتفقد نظره الرمزي. أما أولئك الذين يسخرون من كل جديد، فمشكلتهم ليست في الهوية، بل في الفكرة ذاتها: فكرة البناء، وفكرة التغيير، وفكرة أننا نستحق أن نُعرّف أنفسنا بهوية نختارها نحن، لا تلك التي فُرضت علينا بالسلاح والحديد واللون الواحد.