الرأي العام

نوافذ الإثنين | لماذا تركيا؟

ميخائيل سعد

كنت في مراجعة روتينية للممرضة التي تعتني بي في مسائل صحية مثل مرض السكري، وضغط الدم، والكلسترول، قبل رفع تقريرها لطبيب العائلة المشرف علي، وهدف هذا الاجراء الحديث هو توفير وقت الطبيب، الذي يسمح له برؤية أكبر عدد من المرضى، كما يعكس في الوقت نفسه أزمة النظام الصحي برمته في كندا، وبشكل خاص مقاطعة  كيبيك. ففي الوقت المحدد للمريض عند الممرضة، وهو ساعة، مقابل عشر دقائق عند الطبيب، تقوم الممرضة بمتابعة تطورات الأمراض التي تصيب، بشكل خاص المسنين، وترفعها للطبيب، الذي لا يبقى عليه سوى رؤية المريض وتشخيص حالته الصحية ووصف الدواء المناسب، أو تحويله إلى الطبيب الأخصائي.

 الوقت المخصص صرفه عند الممرضة يتيح للمريض الشكوى من آلامه، وتبادل الحديث مع الممرضة، التي تكون عادة لطيفة جدا، وجميلة بشكل عام، فتستفيد الممرضة من الحوار مع المريض، من الإحاطة بالظروف الاجتماعية والغذائية والعاطفية للمريض، ما يساعدها على فهم الأسباب العميقة للأمراض، لتسجيلها في سجل المريض، فيأخذها الطبيب بالحسبان عند تشخيص الأمراض.

لماذا تدرس في تركيا وليس هنا؟

بمجرد دخولي إلى مكتب الممرضة، بدأتْ بالقيام بواجباتها الطبية؛ أخذت ضغط الدم ثلاث مرات، وكانت تسجل النتيجة في كل مرة على الكمبيوتر، ثم تقول لي مشجعة مع ابتسامة تجعل القلب يرتجف: ضغطك يتحسن، وقبل سفرك إلى تركيا سيكون كما يجب عليه أن يكون، أي مثل ضغط أي شاب، إذا انتظمت في تناول الدواء، إن عدم الانتظام في تناول الدواء يسبب للمريض دوخة، هذا غير الأعراض الأخرى. دون مقدمات سألتني: لماذا تدرس في تركيا، ففي مدينة مونتريال أربع أشهر جامعات، في كندا، وربما في العالم، فلماذا جامعة ماردين؟

لم يكن السؤال جديدا عليّ، فقد سُئلت عن الموضوع عشرات المرات، ولكن إجاباتي كانت مختلفة كل مرة، بحسب السائل وعمره وجنسه؛ بالنسبة للشباب كان جوابي يهدف إلى تحريضهم على متابعة العلم بشكل عام، ليس من أجل نيل شهادة جامعية وإنما من أجل المعرفة التي هي ثروة الانسان الحقيقية، بالإضافة إلى أن العلم يساعد في تحسين الوضع المادي للإنسان، بالنسبة للشباب السوريين، كنت أحاول حضهم على التعلم باللغة التركية إذا كانوا يريدون العمل بشهادتهم، وبالتالي كان وجودهم في القسم العربي، في الجامعة هو مضيعة للوقت، وتعليق شهادة جامعية على جدار غرفة الضيوف، لشوفة الحال.

أما الكبار بالسن، فكان جوابي لهم هو تحريضهم على الدراسة، لإعطاء حياتهم معنى جديدا، ونيل معارف جديدة، ووقاية عقولهم من الإصابة المبكرة بالزهايمر، وإقامة علاقات اجتماعية من مختلف الأعمار.

لماذا الجامعة في تركيا بالنسبة لي؟

أثناء عمل الممرضة كنت أتأملها، فهي سيدة، ربما، في نهاية الأربعينيات من العمر، كان جميلة جدا في شبابها، ولكن الزمن لا يرحم، فقد ترك آثاره على البشرة البيضاء التي بدأت تجف، والشعر الأشقر المصبوغ، والعنق الذي لم يستطع إخفاء بعض التجاعيد. كنت أقول لنفسي: إنها جميلة بنظري، رغم أنني أميل للمرأة الرشيقة بشكل عام. أخرجني سؤالها المباغت من أحلام يقظتي، وقررت أن يكون جوابي، هذه المرة، مختلفا أيضا، ولكن مساحة الرؤية فيه تكون أوسع، ربما كنت أضمر لفت نظرها لي كرجل جذاب ومثقف، رغم بلوغي الخامسة والسبعين، لذلك فكرت جيدا قبل الإجابة:

قدحة النار

قلت هناك أسباب متعددة لدراستي في تركيا، أولها أنني أردت الخروج من دائرة الختيرة، فقد اكتشفت بالتجربة، وخلال سنوات، أن الدائرة تضيق عليّ، بعد الخروج من سوق العمل، وتراجع اهتماماتي، ”ببقايا الثورة السورية“،  وتجاهل ما يحدث في الساحة الكندية، إلا ما يتعلق منه في الوضع المعاشي. وهكذا اقتصر نشاطي اليومي على الذهاب إلى”مقهى المعمرين السوري“، ومتابعة كتابة بعض ”البوستات“ على الفايسبوك، ومشاهدة السينما على كمبيوتري. وشيئا فشيئا أصبحت حياتي اليومية مملة ومضجرة، وتسحبني نحو شيخوخة سريعة، في هذا الوضع المضجر حيث روحي تكاد تتلاشى، قال لي أصدقاء، يعملون كأساتذة؛ في جامعة ماردين: لماذا لا تعود للدراسة الجامعية عندنا؟ فكان كلامهم كقدحة النار التي أشعلت اليباس في روحي، وهكذا وصلت إلى جامعة ماردين، وأنا الآن في الفصل النهائي من دراستي الجامعية، في قسم التاريخ العربي.

أما لماذا ليس في جامعة مونتريالية، فهذه قصة أخرى، ولكنها لا تنفصل عن قصة هجرتي. يخرج السوري الذي من جيلي، من سورية ”قلب العروبة النابض“ لا يعرف من اللغات إلا العربية، فتكون عقبة أولى أمام تأقلمه في الوطن الجديدة، بعكس اللبناني مثلا، أو الأردني أو العراقي أو المغربي، الذين سرعان ما ينخرطوا في سوق العمل والحياة اليومية، بنما يتأخر المهاجر السوري سنوات كي يتعلم لغة البلد الجديد، بالنسبة لي، رغم مرور السنوات، لم استطع اتقان الفرنسية التي تسمح لي بالالتحاق بالجامعة بعد تقاعدي، كما أنها لم تسمح لي ببناء صداقات مع كنديين، فبقيت أسير الدائرة العربية، وبعد قيام الثورة أصبحت أسير دائرة بعض السوريين الذي يشاطروني الموقف نفسه من ثورة الشعب السوري،  ثم تشظت هذه الدائرة الأخيرة، فلم يبقَ أمامي إلا المقهى، والرحيل لإنقاذ نفسي.

لم أكن أسعى أن أكون قدوة لأحد

عندما اتخذت قراري بالالتحاق بالجامعة وأنا بهذا العمر، لم أفكر بالآخرين، بمعني أنني لم أبحث عن دور اجتماعي، أو عن لعب دور ”القدوة“ بالنسبة لبعض الناس، ولكن هذا حصل شيئا فشيئا، من خلال كتاباتي عن الحياة الجامعية، فقد بدأ بعض الناس، من أعمار مختلفة، بطرح الأسئلة عليّ عن طريقة الالتحاق بالجامعة، وكنت أرشدهم، حسب معلوماتي، و بدأت ”المظاهرة تكبر“، وأصبحت مثالا يحتذى في العودة إلى الدراسة، وكنت وما أزال سعيدا بما حدث بالصدفة، أي دون تخطيط، ويسعدني دائما قول، أكثر من شخص، أنني كنت السبب في عودته للدراسة.

مرة أخرى، لماذا تركيا؟

تركيا قارة جغرافيا، فيها من التنوع الطبيعي ما يوجد من عناصر الطبيعة في قارة واسعة، وهي قارات حضاريا، فيها تاريخ البشرية منذ لحظة وجوده وحتي الآن، وما على الإنسان إلا أن يفتح عينيه وهو يسير في طرقاتها حتى يرى الحضارات التي تركها البشر وراءهم، وفيها من الأقوام البشرية ما يمثل كل العروق، وبالنسبة لي كسوري الكثير من القواسم  المشتركة؛ الثقافية والحضارية والدينية واللغوية، لذلك أشعر أنني عندما أكون في ماردين فكأنني في سورية، لا أشعر بالغربة التي تجتاحني عندما أكون في كندا. ولكن سرعان ما أكتشف أنني بحاجة ماسة أن أكون كنديا، رغم ذلك.

قالت الممرضة: لقد شجعتني حقيقة على التفكير بالعودة إلى الجامعة، أو على الأقل بزيارة تركيا، وخاصة مادين حيث أنت.

قلت لها: هل أنتِ مرتبطة؟

قالت: أنا حرة ويعجبني الرجل السبعيني.

ضحكنا ونظراتنا تمتزج وتموج بحب المغامرة والعلم.

مونتريال في 3/3/2024

زر الذهاب إلى الأعلى