العدالة المؤجلة: قراءة في سياسة العفو بعد النصر
هل بالإمكان الموازنة بين وفاء القيادة بوعودها، ووفائها لدماء الشهداء وآلام الضحايا والعدالة المنتظرة؟

عدي شيخ صالح – العربي القديم
عقب كل تحوّل سياسي جذري، خاصة حين يأتي عبر مسار دموي أو صراع مسلّح، تبرز معضلة جوهرية أمام القيادة الجديدة: كيف نتعامل مع من ارتكبوا الجرائم في الماضي؟
هل نغفر لنطوي صفحة الماضي؟ أم نحاسب لنؤسس لمستقبل عادل؟
وفي الحالة السورية، حيث ارتكبت أجهزة النظام وشبيحته فظائع لا تُحصى، تصبح هذه المعضلة أكثر حساسية، وأكثر قابلية للتفجر.
الرئيس أحمد الشرع وفريقه اتخذوا قرارًا مثيرًا للجدل: العفو عمّن ألقوا السلاح خلال تحرير المدن والبلدات، على قاعدة “من ألقى سلاحه فهو آمن”، وهو وعد قُطِع أثناء العمليات العسكرية. هذا القرار، رغم طابعه الإنساني والانضباطي، أثار موجات غضب لدى قطاعات واسعة من الشعب الثائر، الذين رأوا فيه محاولة غير معلنة لـإعادة تدوير الشبيحة والجلّادين تحت غطاء الوطنية والمصالحة.
فكيف نفهم هذا القرار؟ وهل بالإمكان الموازنة بين وفاء القيادة بوعودها، ووفائها لدماء الشهداء وآلام الضحايا والعدالة المنتظرة؟
أولاً: خلفية القرار – حين يتحوّل الوعد إلى التزام سياسي
الرئيس الشرع لم يصدر عفوه اعتباطًا. بل التزم بعبارة واضحة خلال المعارك: “من يلقي سلاحه، فهو آمن.” هذه العبارة لم تكن مجرد شعار، بل كانت جزءًا من سياسة ميدانية تهدف إلى:
- منع المجازر العشوائية والانتقام الفردي.
- تشجيع الانشقاق والاستسلام لتسريع التحرير.
- تقديم صورة أخلاقية عن الثورة باعتبارها نقيضًا لبشاعة النظام.
وحين جاءت لحظة النصر، لم يشأ الرئيس أن ينقض وعده، لأن ذلك سيقوّض الثقة بقيادة الثورة، ويشوّه صورتها الأخلاقية والسياسية. لكن المشكلة لم تكن في الوفاء بالوعد، بل في طبيعة الأشخاص المشمولين بالعفو، ومستقبلهم داخل الدولة الجديدة.
ثانياً: هل يعني العفو غفرانًا بلا محاسبة؟
من المهم التفريق بين العفو كإجراء أمني ميداني مؤقت، وبين المحاسبة كاستحقاق قانوني ووطني طويل الأمد.
- من أُلقي عليه القبض بعد أن ألقى سلاحه لا يعني أن قضاياه أُغلِقت.
- العفو لا يُسقط الحق العام ولا حقوق الضحايا.
- يمكن لهؤلاء أن يُخضعوا لاحقًا لتحقيقات قضائية في إطار عدالة انتقالية تنظر في أفعالهم وتقرّر إن كانوا يستحقون الإدانة أو يمكن إعادة دمجهم.
لكن هذا الأمر يتطلب وجود إطار مؤسساتي واضح يُطمئن الناس أن العدل قادم، ولو تأخّر، وأن دماء أبنائهم لن تضيع تحت شعار “الواقعية السياسية”.
ثالثاً: حساسية المزاج الشعبي – جراح لم تندمل
من الطبيعي أن يُغضب هذا العفو كثيرًا من الناس. فهؤلاء ليسوا مجرمين عاديين، بل تورطوا في القتل والتعذيب والإذلال بحق الأبرياء. وفي مجتمع لم يشفَ بعد من الصدمة، ولا يثق بالمؤسسات، يبدو أي تقارب مع هؤلاء وكأنه “خيانة”، أو “مساومة على الدم”. بل إن بعض حالات العفو بدأت تتسلل إلى مؤسسات الإدارة المدنية والعسكرية، ما فتح الباب لمخاوف مشروعة من أن الثورة ستُختطف مجددًا بأدوات النظام السابق، ولكن بزيّ جديد.
رابعاً: كيف نوازن بين مثالية العدالة وضرورات المرحلة؟
لمنع هذا التآكل في ثقة الناس، يجب أن تترافق سياسة العفو مع خطوات حقيقية تُطمئن الرأي العام، منها:
- إعلان إطار العدالة الانتقالية بشكل واضح:
تشكيل هيئة مستقلة تُعنى بجمع الأدلة، والاستماع للضحايا، وإصدار توصيات بشأن كل حالة على حدة.
- الفصل بين العفو الأمني والمستقبل السياسي:
لا يجوز لمن تورط في القتل أو التعذيب أن يتولى أي منصب في الدولة الجديدة، ولو تم العفو عنه أمنيًا.
- تعويض الضحايا وردّ الاعتبار لهم:
مادام لا يمكن القصاص المباشر حاليًا، فلا أقلّ من أن يشعر ذوو الشهداء أن تضحياتهم لم تُنسَ، وأن المجتمع يعترف بفضلهم.
- خطاب سياسي صادق وشفاف:
يجب أن يكون الخطاب الرسمي واضحًا: نحن لا نكافئ القتلة، بل نحاول تفكيك بنية الإجرام بالتدرج وبعقلانية، دون أن نغفر لهم أمام العدالة.
خامساً: دروس من تجارب أخرى
كثير من الدول مرت بمراحل انتقالية بعد سقوط أنظمة دموية:
- جنوب إفريقيا أقرت “لجان الحقيقة والمصالحة”، حيث أُعطي الجلاد فرصة العفو مقابل اعترافه العلني بجرائمه أمام الضحايا.
- تشيلي والأرجنتين تدرّجتا من العفو إلى المحاكمات.
- ألمانيا بعد النازية أقصت القادة الكبار، وأعادت تأهيل الباقين تدريجيًا.
الدرس الأهم هو: لا استقرار حقيقي دون عدالة، ولا عدالة قابلة للتحقق بدون استقرار مؤسساتي.
ولا يمكن للمجتمع أن يثق بالنظام الجديد ما لم يشعر أن كل من أجرم سيُحاسب، ولو لاحقًا.
دولة الثورة لا تشبه دولة النظام
التمييز بين الثورة والنظام الذي ثارت عليه لا يكون فقط بالشعارات، بل بالممارسة الأخلاقية والسياسية. والعفو الذي لا يترافق مع محاسبة لاحقة، وعدالة حقيقية، وتعويض للضحايا، يتحوّل من أداة تهدئة إلى أداة تبييض للجرائم.
الرئيس أحمد الشرع مطالب اليوم بأكثر من الوفاء بوعده الميداني. إنه مطالب بـ:
- الحفاظ على هيبة الثورة الأخلاقية،
- استعادة ثقة الشعب الثائر،
- بناء مؤسسات عدالة تحفظ الحق دون أن تهدد استقرار الوطن الناشئ.
وذلك هو التحدي الأكبر لكل قائد انتقالي: أن يبني الوطن من أنقاض الدولة، دون أن يكرر أدواتها.