العربي الآن

فلسطين في قبضة الابتكار القاتل: هندسة القمع بوصفه اقتصاداً

النظام الاقتصادي الإسرائيلي لا يفصل بين الدفاع والابتكار، بل يقوم على عسكرة السوق.

براء الجمعة – العربي القديم

لطالما قدّمت إسرائيل نفسها للعالم بوصفها “أمّة الشركات الناشئة”، ذلك الكيان الصغير ذو العقل الابتكاري الكبير، والذي استطاع بقدراته التكنولوجية الخلاقة أن يتحوّل إلى لاعب عالمي في صناعة المستقبل. ومع تصاعد هذا الخطاب الترويجي منذ صدور كتاب The Startup Nation عام 2009، أخذت الرواية تتكرّس: إسرائيل دولة ديناميكية، متقدمة، تغذّيها ريادة الأعمال والابتكار العلمي.

لكن هذه الصورة الوردية تخفي خلفها منظومة أكثر قتامة وتعقيداً، تفضحها دراسات جادة مثل كتاب مختبر فلسطين للكاتب اليهودي التقدّمي أنتوني لوفنستاين، وتحقيقات بنيامين كريستن التي تفكك أسطورة الشركات الناشئة من داخلها. فوفق هذه المراجع، ليست التكنولوجيا الإسرائيلية أداة لتحسين الحياة أو تحقيق الرفاه، بل في جوهرها بنية مكرّسة للعسكرة والرقابة وتصدير أدوات القمع.

الأسطورة المؤسسة: من وعود الحداثة إلى توظيف الاحتلال

يحمل لقب “دولة الشركات الناشئة” طابعاً احتفالياً بقدرة إسرائيل على تجاوز صراعات الشرق الأوسط عبر سوق حر مفتوح وذكاء تكنولوجي استثنائي. لكنه – كما توضح هذه الدراسات – يغض الطرف عن أهم محرّك لهذا التقدّم: الاحتلال.

إن العديد من التقنيات التي تسوّقها إسرائيل للعالم اليوم، من برامج المراقبة والتجسس إلى الطائرات المسيّرة، قد وُلدت واختُبرت على أجساد الفلسطينيين، في ظروف قمعية أعطت هذه الأدوات ميزة تنافسية: إمكانية التجريب الميداني المستمر.

مختبر فلسطين”: حين يصبح الاحتلال مساحة اختبار

في كتابه The Palestine Laboratory، يوضح لوفنستاين كيف أن الأراضي الفلسطينية المحتلة تشكل فعلياً مختبراً حيًّا للتكنولوجيا الأمنية الإسرائيلية. لا تُطوَّر هذه الأدوات في بيئات صناعية مغلقة، بل في واقع يومي من المراقبة، الحصار، الاقتحامات، والسيطرة على الحيز المدني.

كل منتج أمني تصدّره إسرائيل – من برامج اختراق الهواتف مثل بيغاسوس، إلى تقنيات التعرف البيومتري – قد تم اختباره عملياً في منظومة السيطرة على الفلسطينيين. وحين تُعرض هذه المنتجات في المعارض الأمنية الدولية، تُسوّق كـ”تقنيات مجرّبة ميدانياً”، أي أنها أثبتت فعاليتها ضد البشر في سياق الاحتلال.

الاقتصاد المعسكر: عندما يصبح الجيش مصنعاً لريادة الأعمال

يرى الباحث بنيامين كريستن أن العلاقة بين التكنولوجيا والجيش الإسرائيلي ليست تفاعلاً عرضياً، بل هي صلة بنيوية. فالجيش، وخصوصاً وحداته النخبوية مثل وحدة 8200، لا يخرّج جنوداً فقط، بل روّاد أعمال وخبراء تقنيين ينقلون خبراتهم مباشرة إلى القطاع المدني.

بهذا المعنى، فإن النظام الاقتصادي الإسرائيلي لا يفصل بين الدفاع والابتكار، بل يقوم على عسكرة السوق. شركات الأمن السيبراني الكبرى، ومؤسسات تحليل البيانات، وحتى الشركات الناشئة، ترتبط جميعها ببنية أمنية متجذّرة في الجيش.

وهذا ما يفسر لماذا لا يستطيع الفرد العادي الدخول بسهولة إلى عالم الابتكار دون خلفية عسكرية؛ فالسوق التكنولوجي الإسرائيلي ليس مفتوحاً فعلاً، بل مبني على شبكات مغلقة من علاقات القوة.

النيوليبرالية العسكرية: قلة تتحكم، وكثرة تُراقب

في ظل هذا التزاوج بين العسكرة والتكنولوجيا، اعتنقت إسرائيل سياسات نيوليبرالية جعلت اقتصادها منفتحاً من جهة، ولامتساوياً بشدة من جهة أخرى. فالطبقة التي تستفيد من ريادة الأعمال التكنولوجية محدودة: غالباً ما تكون من النخبة العسكرية السابقة، أو من رجال الأعمال المتصلين بالدولة.

في المقابل، تتسع رقعة التهميش والفقر، حتى بين الفئات اليهودية. تضخم الأسعار، أزمة السكن، والخصخصة المفرطة دفعت بشرائح واسعة إلى التهميش، بينما تُستخدم الأدوات ذاتها – التي صدِّرت للعالم بوصفها “ابتكاراً” – لمراقبة هذه الفئات وضبطها.

هكذا، يغدو الابتكار في إسرائيل أداة للسيطرة أكثر منه وسيلة للتحرر، بل يتحوّل إلى قيد ناعم يُحكم به الطوق على عنق المجتمع من الداخل، ويُفرض به نظام تحكُّم تكنولوجي لا يرحم.

تصدير القمع: الاحتلال كعلامة تجارية

لا تكتفي إسرائيل بتطبيق هذه التقنيات داخلياً، بل حوّلتها إلى تجارة كبرى. اليوم، تعتبر من أكبر مصدّري أدوات الأمن والمراقبة في العالم، وتتعامل مع حكومات استبدادية من آسيا إلى أمريكا اللاتينية.

وفق لوفنستاين، تُباع تقنيات بيغاسوس إلى أنظمة تتجسّس على معارضيها، وتُستخدم الطائرات المسيّرة الإسرائيلية في حروب السيطرة، وتُعتمد أنظمة المراقبة الحدودية المبنية على جدار الضفة الغربية في بلدان عديدة. الفلسطينيون، في هذا السياق، لم يعودوا فقط ضحايا الاحتلال، بل أيضاً ضحايا سوق عالمية تريد تحويل معاناتهم إلى فرصة.

التكنولوجيا كقناع: أي مستقبل نبتغي؟

يبقى السؤال المحوري: هل يمكن أن نعتبر إسرائيل دولة ابتكار وهي توظّف التكنولوجيا لخدمة الاحتلال، وتُراكم أرباحها من تسويق أدوات الرقابة والقمع؟

يبيّن كل من لوفنستاين وكريستن أن النمو الاقتصادي الإسرائيلي لا ينبع من سوق حر فعلاً، بل من “رأسمالية أمنية” متغوّلة، تستثمر في الخوف، وتربح من معاناة الآخرين. إنه نموذج يتحدّى المفاهيم التقليدية للحداثة: حيث لا تعني التقنية بالضرورة تقدماً إنسانياً، بل ربما تعني تدهوراً أخلاقياً مغلّفاً بالبريق.

خاتمة: ابتكار من أجل الحياة، لا السيطرة

إن إعادة التفكير في سردية “دولة الشركات الناشئة” لا تهدف إلى نفي حقيقة وجود مهارات تكنولوجية عالية في إسرائيل، بل إلى كشف السياق الذي تُوظف فيه هذه المهارات.

حين تصبح أعظم صادرات دولة ما هي أدوات القتل والمراقبة، ويكون مختبرها الأول هو شعب محتل، فإن العالم مدعو لمساءلة الرواية الرسمية، وللتمييز بين الابتكار الحقيقي وبين الابتكار المصنوع لخدمة الهيمنة.

فالمستقبل لا يُبنى بخوارزميات التجسس، ولا بالأسوار الإلكترونية، بل بالتكنولوجيا التي تصون الكرامة، وتحمي الإنسان، وتُعيد تعريف الأمن على أنه حُرية، لا قيد.

المراجع:

  • Anthony Loewenstein. The Palestine Laboratory: How Israel Exports the Technology of Occupation Around the World (2023)
  • Benjamin Kristin. The Startup Nation Myth and Its Discontents – Substack article in No Delusions, No Despair
زر الذهاب إلى الأعلى