دلالات وقضايا | مستقبل الثَّقافة في الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة
النَّقد ضرورة أكثر من كونه مباحًا مسموحًا يظلُّ الاعتدال والمنطق شرط النَّقد الأبرز لتحقيق مفاعيله الإيجابيَّة

د. مهنا بلال الرشيد – العربي القديم
جلس الملك بين خاصَّته من الأمراء ووزراء البلاط، فأراد أن يعظهم؛ فقال لمستشاريه الحكماء ممَّن يثق برأيهم: مَن منكم يكتبُ لي عبارة تُزيح همِّي إذا كنتُ مهمومًا، وتُعيدنُي إلى رُشدي واتِّزاني إذا فرحت كثرًا؟ فكتب أحد الحكماء عبارة على ورقة، وأعطاها للملك؛ فقرأها الملك بصوتٍ عال: (هذا الوقت سيمضي)، وراح يتأمَّل مع جلسائه في معانيها؛ فوجدوا أنَّ الفرح والسَّعادة والرَّقص والغناء والحبور والسُّرور وكذلك الهمَّ والغمَّ والتَّعاسة والتَّذمُّر والنُّفور كلَّها أحوالًا عرضيَّة زائلة، يصنعها الإنسان لنفسه وبإرادته وقراره الشَّخصيِّ، وكذلك يزيل تأثيرها عن نفسه بوعيه وحكمته، فلا الهمُّ همٌّ أَبديٌّ ولا السَّعادة سعادة سرمديَّة، وإنَّما هي عوارض زائلة؛ ولأنَّها كذلك لا تستحقُّ أيَّة مسألة أن نبالغ في مدحها والثَّناء عليها أو نقدها وذمِّها ورفضها، بل لا بدَّ من تجاوز تأثيرات هذه وتلك من خلال التَّفكير المنطقيِّ بالقادم بعدها أو بما يجب أن يأتي بعدها.
وأخيرًا ذاب الثَّلج
تذكَّرتُ جملةَ: (هذا الوقت سيمضي) خلال هذا الأسبوع حين تابعتُ جملة من القرارات لبعض الوزارات المعنيَّة بصناعة الثَّقافة في الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة، ورصدتُ جملة من ردود الأفعال المتناقضة تجاه قرارات مهمَّة في كلِّ من وزارة الثَّقافة واتِّحاد الكتَّاب العرب مع وزارة الإعلام ونقابة الفنَّانين. وبدا لي أنَّ قرارات نقابة الفنَّانين الجديدة تحظى بكثير من المدح والثَّناء بخصوص مَنْحِ العضويَّة الشَّرفيَّة لمجموعة من الفنَّانين السُّوريِّن والعرب ممَّن ناصروا ثورة الشَّعب السُّوريِّ المباركة، وتحمَّلوا بسبب موقفهم الأخلاقيِّ والإنسانيِّ منها كثيرًا من الظُّلم؛ فاستحقَّ كلٌّ من الفنَّان الإنسان فضل شاكر مع السَّيِّدة أصالة نصري والأستاذ مالك جندليّ والأستاذ أحمد القسيم عضويَّة الشَّرف في نقابة الفنَّانين السُّوريِّين بعد زمن غير قصير من الرَّدح والمدح، رُفع فيه علي الدِّيك؛ فصار مطربًا ومقدِّم برامج؛ يستقدم أخوته وضيوفه في سوريا ولبنان، ويمدح المجرم المخلوع بشَّار الأسد، ويغادر الحلقة إذا انتقد الآخرون جرائم ممدوحه المخلوع، ثمَّ رُفِّعت رُتبة علي الدِّيك؛ فأحكم مع أخوته قبضتهم على الغناء في سوريا، وفُرضت أصواتهم؛ لتغدو نموذجًا، وصار علي الدِّيك بمثابة رجل دولة يتوسَّط للفنَّانين الشُّرفاء الثَّائرين من أصحاب المواقف الأخلاقيَّة والإنسانيَّة أو المتَّهمين ظلمًا لو أراد أحدهم زيارة بيته في سوريا أو النُّزول في أحد مطارات لبنان.
وإن كنَّا نؤمن بحقِّ علي الدِّيك وأخوته بممارسة الفنِّ وعَرْضِ بضاعتهم في السُّوق فإنَّنا انتقدنا دفاع على الدِّيك المستميت عن المجرم المخلوع، إلى حدٍّ التَّطرُّف حيث عدَّ علي الدِّيك المجرم المخلوع بشَّار الأسد أباه؛ فاستحقَّ بذلك الرَّدع والمواجهة بدلًا من منحه الامتيازات والقدرة قيادة الفنِّ في سوريا ولبنان. ومثله انتقدنا مواقف باسم ياخور وشكران مُرتجى وأمل عرفة ويزن السَّيِّد وغيرهم؛ لأنَّهم لم يفكِّروا أبدًا قبل مواقفهم تلك بجملة: (هذا الوقت سيمضي)؛ ولأنَّ ذاك الوقت حقًّا مضى استحقَّ الفنَّانون الشَّرفاء تكريمهم وعضويَّاتهم الشَّرفيَّة أيضًا. وطالما قال لنا كبارنا: (غدًا يذوب الثَّلج، ويظهر المرج) في إشارة إلى برق الثَّورات والإيمان بمستقبل عواصفها؛ لأنَّها تحمل ربيعًا مزهرًا لمن آمن بها، وربَّما ذاب الثَّلج وعرَّى أرض البُور القاحلة ونفوس أنصاف الفنَّانين الخاوية ومواقفهم غير الأخلاقيَّة من جرائم الطَّاغية.
الفنُّ ومحظوراته
يرى فلاديمير لينين أنَّ المثقَّف أقدر النَّاس على الخيانة؛ لأنَّه أقدر النَّاس على تبريرها أيضًا، ونحن نجد أنَّ كلام لينين هذا انطبق على مدَّاحي المجرم المخلوع بشَّار الأسد؛ لأنَّهم لم يفكِّروا يومًا بجملة: (هذا الوقت سيمضي)؛ لذلك يستحقُّ أصحاب المواقف الإنسانيَّة والأخلاقيَّة من الفنَّانين قيادة الفنِّ وتوجيه عجلته في المرحلة الرَّاهنة، ويعلو شأن المعتدلين المنطقيِّين بين المثقَّفين والفنَّانين، وتكشف الأيَّام عواقب المواقف المتطرِّفة؛ فالغلوُّ في مدح السُّلطة الحاكمة وتبرير أخطاء الظَّالم بحجَّة الدِّفاع عن الوطن وسلامته تطرُّف يفضي إلى عواقب وخيمة، وكذلك يدفع النَّقد الدَّائم لكلِّ قرار مع التَّذمُّر الشَّديد تجاه كلِّ قضيَّة نحو الحرِّيَّة المفرطة أو الحرِّيَّة غير المنضبطة؛ وبسبب الإفراط أو البعد عن الاعتدال (في المدح أو النَّقد) تنشأ نزعة ليبراليَّة مدمِّرة أو قمع فكريٌّ هدَّام، ولا يجوز الإسراف بالرَّقابة إلى حدِّ قع الإبداع وتشويهه، وكذلك لا يكمن نشر كلِّ ما ينتجه الأدباء والكتَّاب دون النَّظر فيه بدعوى (حرِّيَّة الكتابة) أو (حرِّيَّة التَّعبير)، وقد شاركتُ بصفتي ناشرًا ومحاضرًا وزائرًا في كثير من معارض الكتب، ورأيت بأمِّ عيني رذائل الإفراط في الحرِّيَّة وسفاسف المنشورات، ورأيت على غلاف رواية هذه الإشارة مكتوبة بالخطِّ الأحمر العريض (18+) في معرض من المعارض، وتصفَّحتُ فيها جملًا ليس لها علاقة إلَّا (بقلَّة الذُّوق والأدب والأخلاق)، ورأيتُ عنوانًا آخر مثل: (نهديَّات الواوا) وغيره.
يشكِّل الدِّين والفنُّ والسِّياسة أهمَّ ثلاثة محظورات أو (تابوهات) في الثَّقافة العربيَّة، وتُعنى بإدارة هذه المحظورات وزارات الثَّقافة والإعلام والتَّربية مع نقابة الفنَّانين واتِّحاد الكتَّاب العرب، وإن كنَّا نرفض هيمنة الرَّقيب على الفنِّ والثَّقافة والأدب من جانب أوَّل فإنَّنا بحاجة ماسَّة إلى حماية الأخلاق الفاضلة وتحصينها من جانب آخر، ولا يكون الحلُّ بترك الحبل على غاربه ولا بالرَّقابة الشَّديدة إلى حدِّ تحريم النِّقاش حول المحظورات أو الكتابة فيها، وكذلك لا يجوز الاستثمار غير الأخلاقيِّ في هذه المحظورات؛ لذلك سنرفض توظيف المحظورات وتحويلها إلى عبارات ترويج مثلها مثل استخدام الجسد العاري أو عبارات السُّباب والشَّتائم. أمَّا حرِّيَّة الواجب الأخلاقيِّ لدينا فهي تشبه حرِّيَّة جون ديوي؛ لأنَّها تدعو المفكِّر المرموق إلى رفعِ قلمه، وتلزم الكاتب الموهوب بأن يحمل ريشته، وتدفع المثقِّفين الحقيقيِّين من أصحاب الواجب الأخلاقيِّ نحو الكتابة في المحظورات؛ لنقد الاستثمار غير الأخلاقيِّ فيها؛ فكم تسلَّل من الخرافات إلى الأديان! وكم علا من الدَّجَّالين وارتفع شأن المستثمرين في الدِّين! فترى بعضهم محفوف الشَّاربين ومفتيًا جهاديًّا وبلحية طويلة في صورة، وتراه علمانيًّا براغماتيًّا في مقابلة متلفزة، ثمَّ تجده شاعرًا مع بدلة رسميَّة وربطة عنق في مؤتمر للحوار، وربَّما ادَّعى تدبيج الكتب في الفكر وأصول التَّفكير في جلسة أخرى، وكثيرًا ما تنتشرالشَّعوذات، وتفشو آراء المشعوذين من بوَّابة بعض المستثمرين في الدِّين والتَّديُّن، وبالمحصَّلة نحن نطالب باحترام الأديان والدِّين والتَّديُّن والمتديِّين، ونحن مع النَّقد والكتابة النَّقديَّة الواعية في هذا المجال؛ ولأنَّ الأديان والأخلاق صنوان لا ينفصلان نجد أنَّ كتابة المفكِّرين الأخلاقيِّين في هذا المجال ضرورة ملحَّة، ونجد أنَّ نقد الاستتثمار غير الأخلاقيِّ واحد من أولويَّات الكتابة في هذا المجال.
وما ينطبق على الكتابة في مجال الدِّين ينطبق على الحديث في السِّياسة والجنس أيضًا، وجلُّ ما نريده في هذه المجالات كتابات عميقة وواعية، لا يحكمها غير الاعتدال والواجب الأخلاقيِّ، ونرفض التَّطرُّف في النَّقد والتَّشاؤم أو التَّطرُّف في الانصياع والتَّأييد، ولا وصاية لأحد على غيره إلَّا وصاية الأخلاق والواجب الأخلاقيِّ، ولا يمكن تكميم الأفواه ومصادرة حرِّيَّة التَّعبير من بوَّابة حماية الأخلاق كما لا يجوز الابتذال والإسفاف من بوَّابة الحرِّيَّة ورفض الرَّقابة على النَّشر والمنشورات.
المثقَّف السُّوريُّ على المحكِّ
صدر في كلٍّ من وزارة الثَّقافة ووزارة الإعلام واتِّحاد الكتَّاب العرب في الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة جملة من المواقف والقرارات، وأعرب كثير من المثقَّفين عن مواقفهم النَّقديَّة المتباينة تجاهها، واستحقَّ نقد المعتدلين الإشادة من أجل مستقبل الثَّقافة في الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة، وبدت بعض المواقف متطرِّفة نحو اللِّيبراليَّة المطلقة حين دعل أصحابها إلى حرِّيَّة النَّشر المطلقة دون أيِّ رقابة، وتطرَّف آخرون-ومن أجل حماية الأخلاق بحسب بعض المزاعم-دعا نفر منهم الرَّقيب إلى إعمال مبضعه وحرمان المبدع من الوصول إلى المتلقِّي قبل تمرير العمل على مبضع الرَّقيب، ويبدو لي التَّطرُّف واضحًا في هذين الرَّأيين المتناقضين، فلا الرَّقابة تحمي الأخلاق، ولا الحرِّيَّة المطلقة تنتج فكرًا نيِّرًا، ولا ينتج الفكر والفنَّ غير الموهبة والإبداع، وتنتج الرَّقابة القمعيَّة مع الحرِّيَّة غير المنضبطة بالواجب الأخلاقيِّ أعمالًا مشوَّهة، وفي غالب الأحيان ينعكس تأثيرها السَّلبيُّ على جودة العمل، وتحدُّ من قدرته على توصيل رسائله للتَّأثير في المتلقِّي.
شُكِّلت هيئة انتقاليَّة مع رئاسة توافقيَّة جديدة لاتِّحاد الكتَّاب العرب في الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة، وانتمى أعضاء هذه الهيئة ورئاستها إلى مجموعات أدبيَّة متعدِّدة ومنظَّمات ثقافيَّة متنوِّعة، كان بعضها يعمل داخل الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة، وعمل بعضها الآخر بصفة مستقلَّة أو شبه مستقلَّة خارج سوريا. وأشاد بعض المثقَّفين بهذا التَّوافق المضبوط بمدَّة زمنيَّة محدَّدة للعبور بالثَّقافة السُّوريَّة إلى برِّ الأمان وإبعادها عن التَّجاذبات والصِّراعات الفكريَّة، وفي الوقت ذاته اشتكى بعض الكتَّاب المستقلِّين من تغييبهم أو تنحيتهم مقارنة بوجود مَن كان شريكًا في صناعة ثقافة البعث أو مَن كان شاهد زور على تلك المرحلة. وإن كان النَّقد ضرورة أكثر من كونه مباحًا مسموحًا يظلُّ الاعتدال والمنطق شرط النَّقد الأبرز لتحقيق مفاعيله الإيجابيَّة؛ لأنَّ انتخاب هيئات ثقافيَّة جديدة من المثقَّفين الموجودين في الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة سينتج في غالب الأحيان هيئة جديدة على شاكلة هيئات المجرم المخلوع بشَّار الأسد لأنَّ الوجوه هي ذاتها، ومعظم التَّكتُّلات القديمة تكتُّلات صلبة، ولها القدرة على استغلال الحرِّيَّة واستثمارها استثمارًا خاطئًا مثل أيِّ علقة أو طفيليَّة تعيش داخل الجسم وتقتات من غذائه وتدمِّره من داخله، ولا تستطيع أصوات المستقلِّين في الدَّاخل والخارج مواجهة بعض التَّكتُّلات القديمة؛ لذلك لا بدَّ من مرحلة انتقاليَّة توافقيَّة، ويمكن خلالها لأيِّ مثقَّف سوريٍّ أن يقدِّم إنتاجه وطَلَب انتسابه إلى الهيئة الَّتي تمثِّله أو يجد نفسه فيها، وإن تحقَّقت عليه شروط الانتساب والعضويَّة الواضحة والصَّريحة يصبح عضوًا منتسبًا، وبدلًا من التَّطرُّف في النَّقد أو التَّأييد الَّذي يؤجِّج الصِّراعات الفكريَّة الهدَّامة يستطيع المثقَّف الانتساب إلى الهيئة، الَّتي يجد نفسه فيها، ويمكنه بعد الانتساب ممارسة (العزل الاجتماعيِّ) بصورة ما؛ يمكنه محاسبة الهيئات القديمة بعدم التَّواصل أو التَّعاون معها بصورة تشبه العزل الاجتماعيَّ أو المجتمعيِّ الَّذي مارسه أحرار سوريا على دريد لحَّام عند عودته إلى مطار دمشق دون أيِّ اهتمام أو اكتراث به بسبب مواقفه الدَّاعملة للمجرم المخلوع، ويستطيع المثقَّف المتنوِّر في هذه المرحلة الانتقاليَّة أن يطرح آراءه، ويصوغ أفكاره وتوجُّهاته في مشروع ثقافيٍّ متكامل؛ ليعرض مشروعه بعد ذلك على زملائه المثقَّفين والكتَّاب في المؤتمر القادم، وسنكون جميعًا خلف المشروع المقنع، وسوف ننتخب أصحابه؛ ليكونوا قادة الثَّقافة في سوريا المستقبل.