الكتابة والناس في فكر أحمد برقاوي
بقلم: إيمان أبو عساف
العبقري حاضر بكتابته، وحده يحرّر اللغة، ووحده يجعل اللغة تتسامى، لتبلغ ذرا استثنائية من الجمال والبهاء، وفي أحايين كثيرة تكون اللغة هي حفرية العبقري، وميثاقه وعهوده، وبذلك يضع الفيلسوف أحمد برقاوي اللغة (لغة العبقري) في حرز يعصمها من الاندثار والنسيان، وضروب الدهر، ويبقيها وشماً خالداً في تاريخ الإنسانية.
يعرّف برقاوي المفهوم في موضوعه “الناس والكتابة” عبر كتابه (الحب والحرية والحياة.. تأملات فلسفية وشعرية) الصادر عن دار (العائدون للنشر) في عَمان، ويرى بداية أنه عندما نقول (أيها الناس) نقصد الناس بصورة عامة، جماعات، أو أحزاب، أو فئات، أو طبقات، وكلما كانت اللغة حرّة مرنة ذكية حساسة، تتسع وتتضح وتستقل، وتملك أدواتها مع كل تنوع، وبعد ذلك تأتي العلاقة مع الناس، لتبدو هذه العلاقة ملتبسة، كما يراها فيلسوفنا الكبير، مؤكداً أن لحظة إعلان الكاتب لخطابه، هي لحظة بدء علاقة ملتبسة مع الناس، كون الكاتب ليس صاحب القرار في تحديد صنف المتلقين، ولا في آليات فهمهم للنص، ومعايير حكمهم عليه، وعليه فالناس يمتلكون حيزاً من الحرية لا يمتلكها الكاتب الذي يصير خارج علاقته بنصه، في حياته وبعد مماته، إذ إن الكاتب لا يختار قرّاءه، ولا يجبر أحداً على القراءة، وأما المتلقي فهو راصد، ومقارن، وناقد، ومؤرشف، ومصنّف.
والقارئ حسب سياقه يقرّر تأصيل العلاقة مع النص الإبداعي، وعندما نتساءل عن العلاقة بين الكاتب والناس، فالأمر يبلغ هنا ذروة مقاصده، وفي مرحلة من المراحل يطلب فيها من الكاتب أن يتخذ موقفاً من الناس، وتحديداً في مرحلة بالغة الحساسية، من مراحل صناعتهم للتاريخ، ويتمّ الغرض عبر أداء رسالة توافق، أو ترفض حبكة معينة في صناعة التاريخ، والكاتب بهذا (مؤتمن) على صون الحقيقة، حتى وإن صدم الناس، واصطدم معهم، وإبداعه مسؤولية، والكاتب يسمّي كل الأشياء بمسمياتها، والكاتب شاهد على تناسل اللغة الحلال، ويقف كذلك على مسافة عادلة من المتلقي، ومن عملية النقد، محايداً تجاه العقائد.
وعندما يقوّم عمله من الناس الذين قرؤوه، يكون الكاتب مرناً جداً في التعديل، والحذف والتصحيح والزيادة، وعندما يتناول برقاوي فكرة موت المؤلف، نراه يؤكد أن النص والمؤلف واحد، ويرفض إلا أن يكون مسؤولاً أمام الناس عن خطابه، ومن حقّ الناس أن تنتظر كاتبها، وقد يصمت الكاتب، ويستنطق الناس كاتبهم بما يريدون.
ولما كان الناس في مكابدتهم المستمرة مع تلاوين الحياة، هم صنّاع تاريخ، يحقّ لهم أن يسألوا في المنعطفات الكبرى عن كاتبهم، وأين هو؟!
كذلك من حقهم أن يسألوا أين شاعرهم فلان؟! وهل هو يعاقر أزمة، أو شدة أخلاقية، أو عسر فهم، أو ضائقة في الاستيعاب، وهل سيبقى غائبا؟! وهل سيقبل بحكم الإفلاس الإنساني والإبداعي؟! وهل سيتخذ قرار الانتحار الأخلاقي؟!
بكل وضوح أرى البرقاوي هنا يشير إلى أزمة متعددة الجوانب والتعريفات، وأخطرها الأزمة الفكرية، والتي تشخّص عبر أزمة في منهج التفكير.
والمأزوم فكرياً عاجز عن التفاعل فكرياً، مع صنّاع التاريخ من الناس، يواجه إرثاً ثقيلاً، مع أوثانه الباطنية، أو المكتسبة، لذلك يبدو الواقع العربي اليوم مأزوماً أكثر من أيّ وقت مضى، والأمة تعيش مأساتها المحمومة حتى الملهاة، وفي نفس الوقت يراها في حالة قيامة ناصعة، وفي بؤرة الحرج هذه، تأتي مسؤولية الكاتب العبقري، ليقول ببساطة أشياء معقدة، ووحده القادر أن يتحرّك في أمداء رحبة تشير إلى غرس نافع ومهم، وآخر ضار وسام.
من المدهش أن يتطرّف العبقري في الموضوعية والأخلاق والقيمة، فلا يكون إقصائياً يتطلب التشارك، على عكس المتطرف الأيديولوجي، المنغلق، حتى حدود الإقصاء المطلق.
ويستمرّ الكاتب العبقري في إنتاج حوار يقبل الآخر، مهما بلغ من اختلاف، وهكذا يلعب دوره المتجدد باستمرار، من خلال خطابه المتجاوز في أفقه، والنهضوي والتنويري في معناه ومبناه.
يقدم لنا الفيسلوف البرقاوي باستمرار تأملات فلسفية مدهشة لتفاصيل، ومفاهيم وحالات يندر أن يتطرق إليها المفكرون العرب، بمثل هذه القدرة النفاذة، على الغوص في جوهرها، والقدرة على إيصالها للأفهام بكافة مستوياتهم، فلا يستغلق الفكر النير أمام غارق في عتمة، أو هارب من ضوء.