السيادة في ميزان العملة: بين الضرورة الاقتصادية والرمزية السياسية
قد تُصبح خيارًا اضطراريًا في ظل انهيار النظام النقدي السابق

عدي شيخ صالح – العربي القديم
في ظل المتغيرات السياسية الجذرية التي شهدتها سوريا، ومع سقوط نظام الأسد وتوسع سيطرة الحكومة الانتقالية لتشمل كافة المناطق السورية (باستثناء مناطق “قسد” شمال شرق البلاد)، أصبحت الأخيرة أمام مسؤوليات سيادية شاملة، من أبرزها ضبط السياسة المالية والنقدية. ويُلاحظ أن التعامل بالليرة التركية والدولار بات واقعاً في عدد من المناطق، إلى جانب استمرار تداول الليرة السورية التي انهارت قيمتها بشكل شبه كامل، مما أدى إلى تشكّل نظام مالي مزدوج بحكم الضرورة.
غير أن المشهد الآن بات مختلفًا:
- المشهد السياسي: تعددية سلطات حكومة مؤقتة تعتبر نفسها ممثلة لكل سوريا (عدا قسد)
- النظام المالي: مزدوج بحكم الواقع → نظام مالي مؤقت–رسمي–منظم
- العملات المستخدمة: متنوعة دون توحيد سياسي → استخدام متعدد باعتماد رسمي من الحكومة
- التحدي: تجنب الانقسام → بناء سيادة مالية موحدة تحت سلطة شرعية
المبدأ القانوني والسياسي:
في العادة، يعتبر تغيير العملة قرارًا سياديًا من اختصاص الحكومات المستقرة أو المنتخبة دستوريًا. إلا أن الحكومات الانتقالية الثورية التي تحوز على شرعية الأمر الواقع و/أو الشرعية الشعبية يمكنها اتخاذ مثل هذه الخطوات إذا كانت ضرورة وطنية مبررة ومؤقتة، وتستند إلى توافق مجتمعي ودعم فني من الخبراء.
وعلمًا أن الحكومة الانتقالية تُشكَّل عادةً لفترة مؤقتة بهدف إدارة شؤون البلاد خلال مرحلة انتقالية، وغالباً ما تكون مهامها محدودة بإدارة المرحلة والتحضير لانتقال مستقر نحو نظام دائم (مثل إعداد دستور جديد أو تنظيم انتخابات). من هذا المنطلق، لا يُستحب – سياسيًا ودستوريًا – أن تقوم الحكومة الانتقالية باتخاذ قرارات استراتيجية أو تغييرات جذرية، مثل تغيير العملة الوطنية، إلا في الحالات التالية:
- وجود ضرورة قصوى وطارئة، مثل الانهيار التام للعملة القديمة أو سيطرة أجنبية عليها.
- صدور القرار بتوافق وطني واسع، وبموجب اتفاق دستوري انتقالي أو عبر مؤسسات شرعية مثل مجلس وطني أو هيئة تأسيسية.
ومع ذلك، فإن الواقع الجديد يتيح فرصة لبناء نظام مالي مؤقت منظم وذو طابع رسمي يتناسب مع المرحلة الانتقالية:
- إنشاء هيئة مالية مركزية انتقالية (مثلاً: مصرف سوريا المؤقت أو ديوان مالية).
- تنظيم استخدام العملات الأجنبية والمحلية.
- إدارة موحدة للضرائب والرسوم.
- إعداد قاعدة بيانات مالية وطنية.
- وضع خطة تدريجية لإعادة إصدار عملة وطنية موحدة لاحقًا
نظام مالي مزدوج ونظام مالي مؤقت:
- النظام المالي المزدوج: هو نظام يتعايش فيه أكثر من عملة داخل السوق الواحدة، دون وجود تنظيم مركزي، وغالباً ما يكون ناتجًا عن الأزمات.
خصائصه:
- ضعف الرقابة المالية.
- غياب سلطة نقدية موحدة
- تباين في الأسعار وفقدان الاستقرار.
مثال: لبنان، حيث يتم التعامل بالدولار والليرة اللبنانية دون تنظيم دقيق.
- النظام المالي المؤقت: يُعتمد في مراحل انتقالية وتحت إشراف سلطة شرعية مؤقتة.
خصائصه:
- توجيه رسمي لكيفية استخدام العملات.
- وجود جهة مالية مسؤولة.
- ربط السياسات المالية بمشروع سياسي جامع.
مثال: البوسنة بعد اتفاق دايتون، حيث أُطلق نظام مالي مؤقت خضع لإشراف دولي ووطني حتى توحيد العملة.
الآثار الاقتصادية والسياسية:
تغيير العملة الوطنية يُعد من أخطر الإجراءات الاقتصادية والسياسية التي قد تتخذها دولة ما، فهو يرتبط بـ:
- الاقتصاد: التأثير على الأسواق، المدخرات، العقود، السيولة.
- السيادة: إذ تُعد العملة رمزًا وطنيًا للسيادة.
- الاستقرار: خطر فقدان الثقة أو التضخم أو الفوضى.
لذلك، يُفترض أن يكون من صلاحيات الحكومات المنتخبة أو الدستورية، وليس للحكومات المؤقتة، إلا في حال وجود تفويض واضح وتوافق شامل.
المبررات الاقتصادية لتغيير العملة:
- وقف الطباعة غير المغطاة من النظام المنهار
- إعادة بناء الثقة في النظام النقدي والمالي.
- إعطاء إشارات على بداية مرحلة سياسية جديدة.
- تسهيل بناء نظام مالي جديد يتناسب مع متطلبات الاقتصاد المحلي والدولي.
- محاولة ضبط التضخم عبر التحكم بالعرض النقدي.
البعد السياسي والدولي لتغيير العملة – دروس وتجارب
يمثل تغيير العملة قرارًا سياديًا حساسًا قد يُفهم دوليًا أو داخليًا كخطوة نحو الانفصال أو فرض سلطة أحادية، خاصة في ظروف النزاع أو المرحلة الانتقالية. ومن هنا تأتي أهمية إدراك الأبعاد السياسية والدبلوماسية المحيطة بهذا القرار.
- تجارب دولية مقارنة:
- جنوب السودان: بادر إلى طباعة عملته الخاصة قبل إعلان الاستقلال، ما عُدّ مؤشرًا رمزيًا وسلوكيًا على الانفصال الوشيك.
- إقليم كردستان العراق: رغم تمتعه بحكم ذاتي موسع، امتنع عن إصدار عملة خاصة لتجنّب إثارة المخاوف السياسية من السعي للانفصال.
- البوسنة والهرسك: بعد اتفاق “دايتون”، وُضِع نظام نقدي مؤقت بإشراف مشترك حتى استقرار الدولة، ما ساهم في تهدئة المخاوف من الانقسام.
- كيف نتجنب الفهم الانفصالي لتغيير العملة في سوريا؟
- الربط السياسي: تأكيد أن القرار إجراء مؤقت ومرتبط بانهيار العملة السابقة، لا تعبير عن كيان منفصل.
- التأطير الوطني: تضمين الخطوة ضمن رؤية انتقالية تؤكد وحدة سوريا، وتعتبر العملة الجديدة رمزًا للسيادة المشتركة لا لسلطة جزئية.
- التشاور والتوافق: إجراء مشاورات مع القوى الوطنية والمدنية، وعرض الأمر على هيئة انتقالية موسعة.
- الخطاب الإعلامي: إطلاق حملة توعوية سياسية–اقتصادية تربط العملة الجديدة بالكرامة الوطنية، لا بالانقسام الجغرافي.
- الدعم الدولي: السعي للحصول على غطاء دولي فني ومالي، يُظهر أن الخطوة لا تستهدف الانفصال بل إعادة بناء الدولة السورية بمؤسساتها.
الآثار الاقتصادية المتوقعة على تغيير العملة
- الإيجابيات:
- ضبط المعروض النقدي وكبح التضخم
- تعزيز السيادة الاقتصادية.
- إعادة بناء الثقة في النظام المالي.
- توحيد النظام النقدي في البلاد.
- السلبيات:
- تكلفة مالية ضخمة للطباعة والنقل والاستبدال.
- إرباك الأسواق لفترة انتقالية.
- مخاطر فقدان الثقة إذا لم يصاحب القرار إصلاح اقتصادي.
- إمكانية تأويل الخطوة سياسيًا كتمهيد للانفصال إذا لم تُدار بخطاب وطني واضح.
شروط نجاح تغيير العملة
- شرعية واضحة للحكومة التي تقرر التغيير.
- وجود احتياطي من العملات الأجنبية أو الذهب.
- خطة تدريجية لتوزيع العملة الجديدة.
- حملة توعية وطنية حول أهداف التغيير
- دعم تقني من خبراء اقتصاد ومنظمات دولية
- ربط التغيير بخطة إصلاح اقتصادي ومصرفي شامل.
- خطاب وطني يربط العملة الجديدة بالهوية السورية الجامعة.
خاتمة: خطوة محفوفة بالمخاطر
بينما يبدو تغيير العملة الوطنية خطوة جذرية محفوفة بالمخاطر، فإنها قد تُصبح خيارًا اضطراريًا في ظل انهيار النظام النقدي السابق. ولكن نجاح هذه الخطوة، سياسيًا واقتصاديًا، مرهون بالإدارة الحكيمة، والتوافق الوطني، والارتباط الصريح بوحدة البلاد، لا بانقسامها.