المعاناة المتَّهمة: الكرامة النفسية بين وصمة الاتهام وخطاب التبرير
نحن لا نجرّم المرض فقط، بل نحّمل صاحبه مسؤولية ما فعله، وما فعل به، وما لم يتمكن من شرحه أو الدفاع عن نفسه.

براء الجمعة * – العربي القديم
في بلاد تُدفن فيها الحقائق قبل الأموات، وتُطلب من الجراح أن تشرح نفسها بأدب مهين، ينشأ خطاب هجين يمزج الوصم بالتبرير، والشفقة بالإدانة. هذا الخطاب، الذي يحيلنا إلى حيرة بين العزاء والمحاكمة، والرثاء والتحليل، ليس وليد الصدفة. إنه قد يكون آلية دفاع جمعي، أو محاولة يائسة لترميم صورة مهشمة، أو حتى تبرير ضمني لأفعال لا تُغتفر. إنها محاولة لاغتيال الكرامة مرتين: مرة بالانتهاك، ومرة باللغة التي تبرره.
غالبًا ما تتسلل إلى مسامعنا، عقب كل فاجعة أو موت غامض يستدعي تحقيقًا شفافًا، عبارات مثل: “كان يعاني من مشكلة نفسية”، “كان يتعالج”، أو “كان يتعاطى أدوية”. تُلقى هذه العبارات كأدلة تُنشر لتفسير ما لا يُفسّر، أو لتبرئة من لا ينبغي تبرئته، أو لتثبيت صورة نمطية عن “الخطر الكامن” خلف كل من يطلب العلاج النفسي. لكنها في جوهرها تُخفي جريمة مزدوجة: انتهاك الكرامة الإنسانية، وتسطيح الوعي الجمعي، وتحويل الألم إلى ذريعة. هذه اللغة لا تجرد الفرد من إنسانيته فحسب، بل تقوض حقه الأساسي في أن يُعامل بكرامة، بغض النظر عن حالته النفسية.
عندما تتحول اللغة إلى محكمة: السرديات المسمومة تغتال الكرامة
في علم النفس الاجتماعي، تشكّل “السرديات التي تعقب الصدمة” أكثر من مجرد وصف للواقع المرير؛ إنها تعيد تشكيله في وعي المجتمع. فحين نصر على أن شخصًا ما “كان تحت العلاج” بعد فعل عنيف أو وفاة مشبوهة، فإننا لا نبلغ عن واقعة فحسب، بل نلمّح ضمنًا إلى أن معاناته هي تفسير محتمل لما حدث. هنا يبدأ الانزلاق الخطير نحو تبرير الجريمة بوسم الضحية وتشويه صورتها أمام الرأي العام، ما يعد اغتيالًا معنويًا لكرامتها.
تشير الدراسات في علم النفس الاجتماعي إلى أن المجتمع حين يعجز عن فهم السلوك العنيف أو المآسي غير المبررة، يبحث عن تفسيرات مبسطة أو سرديات تريح الضمير الجمعي وتتيح له استيعاب المأساة وتقليل القلق. والمريض النفسي في هذا السياق يصبح رمزًا جاهزًا للتوظيف: شخص يعاني، إذًا يمكن لومه أو الشفقة عليه، لكن لا يُفهم حقًا. هذه التفسيرات تريح الضمير الجمعي مؤقتًا، لكنها تعزز الوصمة وتشوه الحقائق على المدى الطويل. في سياق كسوريا، حيث تُنتهك الحقوق بشكل ممنهج، تصبح هذه السرديات أداة فعالة لإسكات الأصوات وتبرير العنف، بتحويل التركيز من الجاني إلى الضحية، ما يعمّق جرح الكرامة ويثبت صورة الضعف والعجز على من هم في أمس الحاجة إلى الدعم والإنصاف.
بين الحقيقة والخصوصية: حرمة العلاج لا تنتهي بالموت… صونًا للكرامة
الطب النفسي ليس محكمة، والعلاج ليس ملفًا يُفتح في العلن بعد الوفاة. لكل إنسان حقه في الخصوصية، بل إن ميثاق الجمعية الأمريكية للطب النفسي (APA) يشدد على “استمرار مبدأ السرية حتى بعد الوفاة”. لماذا؟ لأن الكرامة الإنسانية لا تنتهي بانتهاء النبض، ولأن اختزال حياة إنسان في تشخيص أو وصف طبي يقال على عجل هو نوع من القتل المعنوي الثاني، يضاف إلى القتل الجسدي إن وجد. هذا الفعل لا يهين الضحية فحسب، بل يسيء لمهنة الطب بأكملها، ويقلل من ثقة الناس بها. إن حرمة العلاقة العلاجية هي جزء لا يتجزأ من كرامة الفرد، وخيانتها تعد اعتداءً على مساحته النفسية الأكثر حميمية.
في مجتمعاتنا، حيث يُنظر أحيانًا للعلاج النفسي كعلامة ضعف أو وصمة اجتماعية، تصبح هذه العبارات أكثر فتكا وتدميرا. نحن لا نجرم المرض فقط، بل نحمل صاحبه مسؤولية ما فعله، وما فعل به، وما لم يتمكن من شرحه أو الدفاع عن نفسه. فتأخذ الجملة التي يفترض أن تكون توصيفًا محايدًا بعدًا أخلاقيًا، تقييميًا، فيه شبهة لوم أو تبرئة، أو كلاهما معًا. هذا يفاقم معاناة الأسر التي فقدت أحبائها، ويضيف إلى حزنها وصمة لا ذنب لهم فيها، ويرسخ الخوف من طلب المساعدة النفسية، ما يشكل انتهاكًا مستمرًا لكرامة الأفراد في حياتهم وبعد مماتهم.
الضحية مرتين: مرة بالوصمة، وأخرى بالتعرية… الأثر النفسي على الكرامة
حين تقال عبارة مثل: “كان يتعاطى أدوية” في خضم الحديث عن انتحار أو حادثة عنف أو اعتقال إنسان وتعذيبه، فإنها تنقل المعنى التالي: ثمة خلل في هذا الشخص، وربما لهذا فعل ما فعل. هذا المنطق قد يرضي فضولًا جمعيًا لحظة الحدث، لكنه يزرع في لاوعي الناس فكرة مدمرة: أن المرض النفسي مصدر خطر، وأن من يعاني نفسيًا هو شخص يجب الحذر منه أو إدانته. هذا يحول الأفراد من ذوات كاملة إلى مجرد “حالات” تُصنف وتبرر بها الانتهاكات، ما يعد إهدارًا فادحًا لكرامتهم.
وهنا المفارقة المؤلمة: نطالب الناس بأن يطلبوا المساعدة النفسية، ثم نشهر بمن طلبها عند أول هفوة أو مأساة. كيف نقنع شابًا يعاني اضطراب نفسي أن يراجع اختصاصيًا، وهو يرى أن مصطلح “تحت العلاج” يُستخدم كوصمة أو شبه إدانة بعد كل مأساة؟ هذا يخلق دائرة مفرغة من الخوف والكتمان، تعيق التعافي وتفاقم الأزمات النفسية على المستوى الفردي والجمعي. في مجتمع كسوريا، حيث تضاعفت المعاناة النفسية بسبب سنوات العنف، يصبح هذا الخطاب أكثر فتكا، إذ يثني الناس عن طلب العون في وقت هم أحوج ما يكونون إليه، ويعمق لديهم الشعور بالدونية وفقدان القيمة، ما يشكل اعتداءً مباشرًا على كرامتهم الذاتية.
لغة الرحمة: بديلنا الضروري وواجبنا المهني لصون الكرامة
لسنا ضد المعرفة، ولا ضد فهم الخلفيات النفسية للأحداث. لكن الفهم لا يبرر الانتهاك، والتحليل لا يقتضي هتك الخصوصية. الرحمة تبدأ من اللغة: من طريقة تقديمنا للمعلومة، من توقيت الإفصاح، من نبرة الحديث. ليس كل ما نعرفه يُقال، وليس كل ما يُقال يُقال الآن، وليس كل ما يُقال الآن يُقال بهذه الطريقة. إن اختيارنا للكلمات انعكاس لمدى احترامنا لكرامة الإنسان.
السردية التي نختارها بعد كل حادثة لا تصنع فقط صورة الضحية، بل تصنع نظرتنا للمرض النفسي عمومًا، وتشكل وعي المجتمع. فإما أن نكون مجتمعًا يحتضن المعاناة بفهم واحترام، ويشجع على طلب المساعدة، ويعلي من شأن كرامة كل فرد، أو مجتمعًا يرمق المريض بعين الريبة ويطلب منه الصمت أو الكتمان، ما يفاقم أزماته ويهدر كرامته.
في سبيل خطاب جديد: صون الكرامة لا يموت
لكي نبني خطابًا نفسيًا يحترم الإنسان ويعلي من شأن كرامته، نحن بحاجة إلى:
- تفكيك اللغة المجتزأة: مراجعة المصطلحات التي نستخدمها دون وعي، والتي تسهم في ترسيخ الوصمة وتشويه الحقائق، ما يقلل من قيمة الإنسان.
- احترام الخصوصية المطلقة: عدم الإفصاح عن معلومات علاجية أو شخصية دون موافقة صريحة ومسبقة من صاحبها، حتى بعد الوفاة، فهذا واجب أخلاقي وقانوني، ومكوّن أساسي من مكونات الكرامة الإنسانية.
- تثقيف الإعلام والناشطين: تدريب الصحفيين والناشطين على التعامل المسؤول مع قضايا الصحة النفسية، وتجنب أي لغة تعزز الوصمة أو تفشي الأسرار، حفاظًا على كرامة الأفراد والمجتمع.
- دعم الرحلة العلاجية: إبراز قصص التعافي والأمل، والتركيز على القوة التي يكتسبها الأفراد من خلال العلاج، وليس فقط ربط العلاج بالأزمات والنهايات المأساوية، بما يعزز من كرامة المتعافين.
- الالتزام المهني: على المختصين النفسيين والأطباء أن يكونوا حراسًا أمناء على أخلاقيات مهنتهم، ويرفضوا أي ضغط يوجب خرق السرية أو استخدام التشخيص كأداة للتبرير، صونًا لكرامة المريض والمهنة.
- للمؤسسات والجهات القانونية الرسمية: يجب التوقف الفوري عن استخدام التوصيفات النفسية كأداة للتنصل من المسؤولية، والالتزام بالتحقيق المستقل والشفاف في كل حالات الوفاة والانتهاكات.
- تفعيل دور المختص والإرشاد النفسي في مفاصل المؤسسات: دمج الكفاءات النفسية في الأطر الرسمية لتقديم الدعم والتقييم المهني، وضمان احترام حقوق الأفراد وخصوصيتهم، بعيدًا عن أي استغلال أو وصم.
في خضم هذا الصراع بين الحقيقة والوصمة، تظل كرامة الإنسان هي البوصلة التي لا تحيد. إن مسؤولية صون هذه الكرامة تقع على عاتق الجميع، وبشكل خاص على الجهات المعنية والمسؤولة قانونيًا ورسميًا.
إلى كل مؤسسة، وكل جهة قانونية، وكل مسؤول: إن تعزيز التعامل الواعي مع كرامة الإنسان الذي يحمل معاناة نفسية ليس خيارًا أخلاقيًا فقط، بل واجب قانوني ومطلب إنساني لا يقبل التأجيل. عليكم أن تدركوا أن احترام الحقيقة يبدأ باحترام الإنسان في كل حالاته، وأن كرامة الروح لا تُساوم عليها، حتى في أحلك الظروف أو بعد أسوأ الانتهاكات.
فلنحذر من الكلمات والبيانات التي نظنها عادية، فهي قد تكون مفصلية في حياة شخص لا نعرفه، لكنه يسمعنا ويخاف من أحكامنا.
فلنختَر أن نكون صوت فهم لا حكم، صوت ستر لا تشهير، صوت إنسانية… حتى في حضرة الموت. إنها مسؤوليتنا الجمعية لنسج نسيج مجتمعي تُصان فيه كل روح، وتُحترم فيه كل معاناة، وتُعلي فيه الحقيقة من شأن الكرامة فوق كل اعتبار.
=========================
*مختص في الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي