نصوص أدبية || اعترافات خَلُّوف الشَّيَّال
قصة قصيرة كتبها: موسى رحوم عباس *
خَلُّوف أحمد العلي الشيَّال يقول سجله المدرسيُ إنَّه ولدٌ ذكيٌّ يتحمَّس لأيِّ فكرة بمجرد أن يسمعها لأوَّل مرَّة، يتبناها وكأنَّها فكرته، يدافع عنها بشراسة، وهو مستعدٌّ للقتال من أجلها، وقد يخرج مُدمى الرأس والوجه كُرمى لفكرةٍ ليست له!
كان كلَّما اتَّخذ مكانه على كرسي الحلاقة منكمش الجسد كعادته، متحفزا وكأنَّه يودُّ القفز عنه، ينظر إلى آثار الجروح المُندملة في رأسه الكبير، وجبينه الواسع، والخياطة العشوائية لها، يقلب شفته السُّفلى، وهو يستمع للحلاق الحاج كرمو معلِّقًا بسخريته المعتادة:
- شو هاذ يا خَلُّوف؟ راس أم خريطة سوريا المنتوفة من كلِّ جهة؟!
- “راس عمِّي كرمو، راس بس” مَرَّت عليه خيانات وحروب أكثر من حروب سوريا وخياناتها!
- وكِّل الله، شيَّال، قاعد نمزح قلبتها سياسة!! استر علينا! ما عاد العمر يحتمل البهدلة وفنجان القهوة مع ” المعلِّم” اكتفينا عَمِّي، اكتفينا، إن شاء الله يركبولك بداله راس قرنبيط، أنا شو علاقتي، وفي كلِّ مرَّة يضحك الحاج كرمو على نكتته منفردا، ويبالغ في ذلك، بينما خَلُّوف يَخْزُرُهُ بجفاءٍ عبر المرآة، وحسب!
خَلُّوف أحمد العلي الشيَّال ذئبٌ جبليٌّ ينام بعين واحدة، يكره النَّاس جميعا، يهرب منهم، يقول لستُ أنتمي لهذا القطيع، ولدتُ، وعشتُ وحيدا، حتى أمي اختطفها الموت ليلة ولادتي، وأظنُّني سأموت مثل أبي ذرٍّ الغفاريِّ وحيدا، ويستحضر قاموسَ الشَّتائم كلَّه، لا يوفِّر أحدا، ويبدأ بهذا الموشَّح كلَّ مساء، فأبتعدُ عنه مسافة أمانٍ كافية، تقيني لُعابَه المتطايرَ من شدقيه نافورةً من الكلمات الجارحة، ولو كان للكلمات رائحةٌ واخزةٌ؛ لاشتمَّها سكَّان المدينة أجمعين في الأحياء المُضاءة، والأخرى التي تغرق في العتمة، يمزجها بعواء ذئبي، يستحضر كلَّ ألمٍ عرفه مخلوقٌ على هذه الأرض، ينام بعدها كالقتيل، في ذلك البيت المتهالك وحيدا. لم أعرف له عائلة، ولم يذكر أحدٌ من الجيران أنَّ أحدًا زاره، إنَّه كالحصان الجَفول، لا يقبل دعوة على طعام، ولا يشهد مناسبة سعيدة أو حزينة لأحد من الحيِّ، كما لا يقبل هدية سوى الكتب، إلا إنَّني ضبطتُهُ أكثر من مرَّة يتسلَّلُ إلى المقبرة، ويقف وحيدًا عند شاهدة قبر، يقرأ الفاتحة، يمسح وجهه بباطن كفَّيه، ويعود من حيث أتى، كزوبعة من الغُبار هبَّتْ فجأةً على دروبنا المُتربة، أتبعُ خطواتِهِ دون أن يشعر بملاحقتي له، أو هذا ما استنتجتُهُ، وربما كنتُ مخطئا، لكنَّه لم يسألني عن تفسيرٍما لِمَا أقومُ به.
في تلك الليلة الشِّتائية كان الظَّلام يهبط سريعا على شوارع المدينة، يندلق كحِمَمِ بُركانٍ، فيملأ فراغ الأزقة والسَّاحات، ويلتصق بالوجوه والحيطان، تخلو الأزقَّة من الأطفال، تنهرهم الأمهات، ليبتعدوا عن الحُفَرِ المملوءة طينًا، ويسارعْنَ لإدخالهم البيوت، يتذمَّرون، لكنَّهم يُظهرون الطَّاعة ويحلمون بوجبةِ عشاءٍ دافئةٍ، فهم يصدِّقون الوعود ويخافون الوعيد، في تلك الليلة ضبطني متلبسًا، يد قوية ذات أصابع متخشِّبة كأنَّها أغصانُ شجرةٍ خانتها جذورها منذ زمن، أمسكتْ بي. لم أدافع عن نفسي، بل ثمَّة رغبة مكبوتة دفعتني لمطاوعته، فسرتُ إلى جانبه، وانتظرتُ صرير الباب العتيق كأنَّه أنينُ سجينٍ أو مُعتقل، سمعتُ منه، وهو يدلف إلى الداخل كلمة واحدة، تفضَّلْ، وقدم لي كرسيًا صغيرًا وله مثله، كان صوتُه عميقًا، وهو يقول لي: هل لي أنْ أعرفَ سبب تتبعك لأثري أنَّى توجهت؟ إذا كنتَ مُخبرا، قلْ لمَنْ أرسلكَ، لم يبقَ لدي ما أخفيه، ولم يبقَ لدي رغبة في هذه الحياة معكم أو بدونكم، وأكمل ثورته بسيل الشَّتائم لأم وأخت وأب “هيك” وطن!
انتظرتُ حتى هدأتْ عاصفته، قلتُ له بصوتٍ خفيضٍ أقرب إلى الهمس، اسمعْ يا صاحبي! النَّاس كالثِّمار، خذ مثلا الجوز يخفي حلاوته بقشرة قاسية، فقد تحطِّم أسنانك إذا حاولت الحصول عليها، والصَّبَّار تحيطه الأشواك التي قد تدمي يدَ مَنْ يحاولُ الوصولَ إلى جوفها اللَّذيذ، جحظتْ عيناه، حتى غدا وجهه مُرعبًا؛ وكأنَّه يقول لي : اقصرْ؛ حينها استأنف حديثه، أعرف أنَّك مصابٌ بلوثة الكتابة، وتبحث عن طريقة ما لتقتحم حياة النَّاس، تستغلُّ حاجتهم للمشاركة في قصص عبورهم لهذه الحياة اللعينة، شهوة الكلام لديهم أقوى من أيِّ حذر، سنوات الصَّمت في المعتقلات الحقيقية أو المعنوية، … قطع حديثه فجأة، ودوَّت ضحكةٌ مجلجلةٌ غلبت هدوءه السَّابق، وعدَّل من جلسته على الكرسيِّ الصَّغير الذي بالكاد يسند مؤخرته، وهبَّ واقفا، وهو يقول: بالله عليك ما الفرق بين المعتقل وهذا السَّجن الصَّغير الذي يسمونه ” بيتي “؟ يسرقون أعمارنا، ثم يطلقوننا للطيران بعد أن نتفوا قوادمَ أجنحتنا وخوافيَها؟ أيُّ طيرانٍ وأيُّ خ…ا ؟! ومع الشَّتائم ودخان سيجارته ربَّما العاشرة، مَنْ يعدُّ سجائرَ رجلٍ يحترق؟ ألقى إليَّ بدفترٍ صغيرٍ، كتبه بخط عريضٍ متداخل، لكنه لا يخلو من جمال، قائلا: خذ هذا الدَّفتر، سَمِّهِ اعترافاتٍ، سيرة ذاتية، لعنة رجلٍ مرَّ في هذه البلاد الملعونة، ويمكن أنْ تقول عنِّي بأنَّني فارسٌ لكن على صَهْوةِ حصانٍ خشبيٍّ…، سَمِّه ما شئتَ، ثم انكمش فوق كرسيِّه، تضاءل حتى صار نقطة سوداء في مدارِ مجرَّةٍ بعيدة، كومة من القهر، احتراق تبغه وتوهّجه المتناوب ينعكس على ملامح وجه رجل لم يبق له ملامح، عيناه العميقتان المحاطتان بهالتين من السَّواد، تثيران الرُّعب وربَّما الشَّفقة!
اعترافٌ أول: ” الشَّيَّال ” ليس لقبا عائليا، ولا تذكره سجلاتُ الحكومة، بل نِلتُهُ منذ الطُّفولة، حيث كنتُ أتطوَّع بحملِ وزْرِ أفعال أصدقائي ” الجُبناء” من يكسر زجاج نافذة أثناء لعب كرة القدم، أو يُصفِّر أثناء كتابة المعلم في السَّبورة، أو يهرب من أداء الصَّلاة في المسجد، أو درس ” الدِّيانة” أو يترك صنبور المياه مفتوحا، وحتى تلك الكتابات البذيئة عن زوجة رئيس الشرطة على جدران المدرسة، أو البيوت المجاورة لها …. كنت أرفع أصبعي معترفًا أنَّني ” الفاعل” فأنالُ نصيبي من الفَلَقَة أو الحبس في غرفة الفصل، أو الحرمان من اللعب، دون أن أتلقَّى من هؤلاء الذين ” شلتُ” عنهم أوزارهم حتى كلمة شكرٍ!
اعترافٌ ثانٍ: في ما يسمُّونه” خدمة العَلَم ” أي الخدمة العسكريَّة الإجباريَّة، اعترفتُ بأنني مَنْ أطلق النَّار على سيارة الدَّورية الإسرائيلية التي مرت محاذيةً للحدود في الجَوْلان، سُجنتُ ستة أشهرلمخالفة الأوامر وقواعد الاشتباك، تلك القواعد التي لا أعلمُ مّنِ اتفقَ مع مَنْ عليها، لم أطلقْ طلقةً واحدةً، ” شِلتها” عن صديقي ” الجبان” الذي هرب بعد إطلاقه النَّار، بالتأكيد تمنَّيتُ لو كنتُ أنا من فعلها، للأسف لم أفعلها.
اعترافٌ ثالث: في المظاهرات يهرب الجميع، ويقذفون باللافتات التي كانوا يحملونها، أنا من القِلَّة التي لا تحسن الرَّكض، ثلاث خطواتٍ وأسقط ُمتعثِّرا بثيابي، بعد الكفِّ الأوَّلِ أو السَّوط الأول، لا فرق، أعترفُ أنَّني من كان يحمل هذه اللَّافتة، أُحشَرُمع عددٍ من أمثالي المتعثِّرين بثيابهم، أو حظِّهم الرَّديء، نبولُ في سراويلنا، ولا يُسْمَحُ لنا بدخول ” المراحيض” ثم يضحك الجنود من تلك البقع الصَّفراء في ملابسنا، يقهقهون، وهم يتندَّرون على ” أبطالٍ” يبولون في سراويلهم!
اعترافٌ رابع: ليس لي زوجةٌ ولا أولادٌ، ولم أكوِّنْ عائلةً، خشيتُ أن يكونوا” شيَّالين” مثلي، وحاذرْ أن تقول لي إنَّني كنتُ ” شجاعًا” بل كنتُ جبانا، رجلٌ هشٌّ ربَّما يبحثُ عن اعترافٍ ما، أو يكفِّرُ عن شيءٍ ما، حتى الصَّوت الذي أكَّدَ المُحقِّقُ ذلك الشَّاب الصَّغير الذي يقفز من زاوية إلى أخرى في مكتبه الكبير المُزَّين بالعلمِ الوطنيِّ المكويِّ جيدًا، إنَّه لي في تسجيلٍ عَرَضَه ُعليَّ، لم يكنْ لي، لكنَّني اعترفتُ بأنَّه لي، وعندما أدركتُ أنني لا أملك ما أخسره، نَسَجْتُ روايةً عن هذا التَّسجيلِ وظروفه البطولية، نعم أنا خلُّوف أحمد علي ” الشيَّال”
كان يجب عليَّ التنويه بأنَّ الخط الذي كُتِبَتْ به هذه الاعترافاتُ هو خطِّي، وقلم الحبر ذو الرِّيشة العريضة هو قلمي، والدَّفتر هو هديَّةٌ من تلك المرأة التي هربتْ ذات ليلةٍ اشتدَّ القصفُ فيها على بيتنا وشارعنا، ولم ترغب أن تكون ” شيَّالة” مثلي، هربت ذات ليلةٍ إلى بلادٍ بعيدةٍ، ربَّما لا “يشيل” فيها النَّاس أحمالَ غيرهم!
إسكلستونا/ السُّويد 2024
_________________
* أديب سوري، عضو اتحاد كتاب السويد