سوريا على صفيح ساخن: هل تنجو من إرث الأسد؟
النسيج الاجتماعي ممزق بفعل التهجير الداخلي والخارجي، والانقسامات الطائفية والإقليمية العميقة، وفقدان الثقة بين المواطنين والدولة

نوار الماغوط – العربي القديم
إعلان ما يسمى بـ”إقليم وسط وغرب سوريا” ليس خطوة سياسية حقيقية بقدر ما هو تعبير عن حنين لماضٍ من الخراب برؤية مضللة للمستقبل، سوف تزيد من معاناة السوريين في وسط وغرب سوريا.
قضية بهذا الحجم لا تُحل في غرف مغلقة في موسكو ولندن وتل أبيب وجبلة واسطنبول والدوحة وكوفنتري وواشنطن، لا عبر لقاءات زووم ولا عبر تشكيل مجالس وكيانات، ولا عبر بيانات متكررة، بل من خلال حوار وطني شامل يشارك فيه جميع السوريين، ويضع مصلحة الناس وأمنهم فوق كل اعتبار. الاستمرار في نهج الأسد الأب والابن سيؤدي إلى مزيد من الانهيار والفوضى، بينما بناء إدارة جديدة قادرة على إعادة الثقة بين الدولة والمجتمع يشكل الطريق الوحيد للخروج من الأزمة.
على مدى عقود، عاش السوريون تحت نظام استبدادي طائفي يعتمد على القمع وتهميش المجتمع المدني، بينما كانت الدولة بلا مؤسسات فعالة. وعندما تولى بشار الأسد السلطة بعد والده، كانت أمامه فرصة تاريخية لفتح باب إصلاح حقيقي وانتقال سياسي منظم، لكنه اختار الاستمرار في نهج والده مع تصعيد العنف وتوسيع الفساد. وكما قال حافظ الاسد سابقًا، أي تنازل أو إصلاح ولو واحد بالألف أو بالمئة ألف في سوريا سيقوض أجهزة الفساد ويسقط النظام، لذلك لم يكن هناك خيار إلا قمع كل محاولة للتغيير واعتقال كل من يطالب بهذا الواحد بالألف.
نتيجة هذا النهج كانت كارثية على جميع المستويات، فالبنية التحتية منهارة بشكل شبه كامل، من مدارس ومشاف وشبكات مياه وكهرباء، ما جعل الخدمات الأساسية في معظم المحافظات شبه متوقفة.
النسيج الاجتماعي ممزق بفعل التهجير الداخلي والخارجي، والانقسامات الطائفية والإقليمية العميقة، وفقدان الثقة بين المواطنين والدولة .
الاقتصاد منهك بشكل لم يسبق له مثيل، مع تضخم متصاعد، وبطالة واسعة، وانهيار الإنتاج المحلي، وتفشي الفقر. أما المجتمع المدني، فقد عانى عقودًا من مصادرة النشاط الأهلي وتجريم العمل السياسي المستقل، ما أدى إلى تراجع المشاركة المجتمعية وفقدان التنسيق بين المواطنين والدولة .
هذه الأوضاع لا يمكن إصلاحها بخطوات سريعة، بل تحتاج إلى رؤية شاملة وإرادة وطنية جامعة، مع إدراك أن ملايين السوريين ما زالوا مهجّرين، مدنهم مدمرة مع انقسام جغرافي واجتماعي وطائفي واقتصادي وثقافي صار واضحًا، واستمرار سيطرة المنظومة القديمة على مفاصل الدولة مانعة أي إصلاح حقيقي
إعادة بناء سوريا تتطلب إدارة جديدة شاملة، قادرة على حماية المدنيين وتأمين الغذاء والماء والكهرباء والمأوى، وإعادة بناء المؤسسات ومحاربة الفساد من خلال تأهيل الإدارات العامة ووضع آليات رقابية شفافة وفعالة، مع التركيز على الوحدة الوطنية ومنع أي مشاريع انفصالية أو فيدرالية مفروضة من الخارج، وتعزيز الانتماء الوطني .
هذه الإدارة يجب أن تعتمد على خطة إصلاح عملية تمتد عبر محاور استراتيجية تشمل الجانب السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والمدني، وهي محاور لا يمكن اختزالها أو تجاهل أي منها إذا ما أرادت البلاد الخروج من الأزمة.
.
بالإضافة إلى تأهيل جهاز الشرطة للتعامل الحضاري مع المدنيين، وحماية الحقوق المدنية والسياسية، بما في ذلك حرية التعبير والتجمع وحق المواطن في المشاركة السياسية، مع آليات لضمان التطبيق الفعلي دون فوضى او تحالفات خارجية. كما يجب إعادة بناء المؤسسات من خلال إنشاء هيئات تشريعية وتنفيذية فعالة ، مع توزيع الصلاحيات بطريقة عادلة تعكس التنوع الجغرافي والطائفي دون المساس بوحدة الدولة .أما الاقتصاد السوري المنهك، فهو بحاجة إلى خطة شاملة لإعادة الإعمار والتنمية .
إصلاح البنية التحتية الاقتصادية وإعادة تأهيل المصانع وشبكات الكهرباء والمياه والطرق الحيوية يمثل أساسًا لتشغيل الاقتصاد المحلي. كما يجب تشجيع الاستثمار المحلي والخارجي من خلال خلق بيئة مستقرة، مع قوانين واضحة وحماية حقوق المستثمرين لجذب رؤوس الأموال اللازمة لإعادة الإعمار .
إعادة هيكلة القطاع المصرفي والمالي لمكافحة الفساد وضمان شفافية العمليات المالية واستعادة الثقة بالنظام المصرفي أمر ضروري، إلى جانب خلق فرص عمل حقيقية من خلال دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة وربط التعليم بسوق العمل لتقليل البطالة وتمكين الشباب .
إعادة بناء النسيج الاجتماعي السوري تحتاج أيضًا إلى معالجة شاملة، تشمل دعم المهجّرين الذين هجرهم النظام الى الشمال السوري ودعم برامج لتأمين السكن والخدمات الأساسية .المصالحة الوطنية تمثل عنصرًا أساسيًا من خلال فتح حوار بين جميع الأطراف ومعالجة الانقسامات الطائفية والإقليمية لتعزيز الانتماء الوطني .
التعليم والصحة يجب أن يكونا في صميم أي خطة إصلاح من خلال إصلاح المدارس والمستشفيات وتحسين جودة التعليم والرعاية الصحية لجميع المواطنين، مع حماية الفئات الضعيفة مثل الأطفال والنساء وكبار السن من مخاطر الفقر والاستغلال، وتوفير برامج دعم اجتماعي مستدامة .
المجتمع المدني هو خط الدفاع الأول عن الديمقراطية والاستقرار. إعادة بناء المجتمع المدني تشمل دعم الجمعيات والمنظمات الأهلية وتشجيع عملها بشكل مستقل وشفاف، وتعزيز الثقافة المدنية والسياسية عبر برامج توعية بحقوق وواجبات المواطنين وتشجيع المشاركة الفعالة في الحياة العامة .
تفعيل الرقابة المجتمعية من خلال إشراك المواطنين في مراقبة أداء الحكومة لضمان المساءلة والشفافية، ودعم الإعلام الحر المستقل، مع إلغاء وزارات الثقافة والإعلام والأوقاف التي كانت أدوات لتكميم الحرية
إعادة بناء سوريا اليوم تتطلب التفاف جميع السوريين حول إدارة وطنية جديدة تنطلق من الداخل وتستند إلى إرادة الناس، بعيدًا عن المشاريع الخارجية الانفصالية أو المغامرات السياسية .
يجب أن يشمل هذا الالتفاف التعاون بين جميع مكونات الشعب السوري على مشاريع إصلاح واقعية، مع الالتزام بعدم الإضرار بالمدنيين، ومشاركة القطاع الخاص والمجتمع المدني لضمان استدامة الحلول وتحفيز الاقتصاد المحلي، مع وضع المواطنين في الداخل محور أي خطة إصلاح والاستماع إليهم قبل اتخاذ أي قرارات كبرى .
ما تركه الأسد الأب والابن من فساد ودمار لا يمكن إصلاحه بين ليلة وضحاها. سوريا اليوم بحاجة إلى إدارة جديدة عقلانية ومسؤولة، قادرة على إعادة بناء الدولة والمجتمع والاقتصاد، والإصلاح لا يمكن أن يتحقق إلا عبر رؤية شاملة تشمل المحاور السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمدنية.
إذا التزم السوريون جميعًا بهذه الرؤية وتوقفوا عن الانجرار وراء المشاريع الخارجية الانفصالية، يمكن أن يبدأ بلدهم رحلته نحو التعافي. الخيار ليس صعبا لأنه ممكن، والأمل قائم فقط في التفاف الجميع حول مشروع وطني جامع يضع مصلحة المواطن السوري فوق كل اعتبار، ويعيد بناء دولة عادلة ومستقرة وآمنة للأجيال القادمة.