الإسكندرية: وللمدائن كالأشجار أرواحُ
العربي القديم – د. أحمد عسيلي
كمَن هو على أهبة الاستعداد من قديم
كشجاع جريء
ودّعها
ودع الإسكندرية
الإسكندرية التي تضيع منك إلى الأبد
*الشاعر اليوناني الاسكندري (كفافيس)
كم هي قاسية هذه الجملة، هي جملة جحيمية أرادها كذلك كفافيس؛ لأنه هو أيضاً يعرف ماذا تعني أن تضيع الإسكندرية منه إلى الأبد، عاش هذا الهاجس، فبقي فيها ولم يتركها آخر ٢٥ سنة من حياته، بل وحتى بعد مماته بقي فيها، ومازال باب منزله إلى الآن مفتوحاً، يقع في ٣ شارع كفافيس، الشقة التي فيها شرفة تطل على الطريق، يقصدها عشاق هذه المدينة والشعر.
وهل يمكن أن يقع الإنسان في عشق مدينة؟
بالطبع نعم، فما يلزم العشق هو روحان، وللإسكندرية روح، بل روح مقدسة!
ليس لكل المدن أرواح، بل هي نفحة من الله لبعض المدن فقط، لبعضها القليل جداً (أعرف أن المدينة الأخرى التي يمكن أن تخطر على بالكم فوراً هي دمشق)، هي مدينة بسيطة، ككل شيء مقدس ونبيل، تتكوّن فقط من شارعين أساسيين، وبينهما فروع وروابط. بسيطة لكنها شاسعة وكريمة، كريمة حدّاً لا يمكنك تخيله.
هل تتخيل كورنيش يمتد لحوالي ١٧ كم، تقطع فيه عشرات الأحياء ذات الطبائع المختلفة، يعج دوماً بالسيارات والبشر، لا فرق بين الثالثة صباحاً، أو الثالثة عصراً، إيقاع الحركة نفسها، رائحة البحر والمطاعم ذاتها، وألوف البشر التي تستأنس بالبحر، ومعسل السلوم، وتلعب الطاولة، ففي الإسكندرية لا حدود بين الليل والنهار.
يبدأ هذا الكورنيش بمنطقة بحري، وينتهي بالمندرة، أو ربما العكس لا فرق، يبدأ بالمندرة وينتهي ببحري، فالاثنتان مناطق شعبية، فيها الروح المصرية كما يمكن لنا أن نتخيلها، هي يتوبيا الحي المصري الذي أغرقنا بحبه نحن السوريين، وجعلنا عشاقاً له منذ وعينا على أحداث مسلسلاته بأبطاله الأسطوريين.
هي رسالة من الإسكندرية، وكأنها تقول: إن القصة تبدأ بحي شعبي، وتنتهي بحي شعبي أيضاً، وبين هذين الحيين، تقع كل الحضارات، وكل شعوب المتوسط الذين جذبتهم لها، من يونان، وطليان، وفرنسيين، وسوريين، بل ومغاربة.
أترك حي بحري قليلاً، لكن من فضلكم لحظة، قبل أن نترك هذه المنطقة الشعبية، تذكروا أن تمروا على قهوة علي الهندي. أعلم أن الوصول إليها صعب، فمدخلها ضيق جداً يوحي بأنه زقاق مهمل، ستجد صعوبة جداً أصلاً في إيجاده، لكن ما إن تمر عبره، حتى تجد فسحة واسعة، مدخل لزقاق آخر، في لعبة الأزقة والفسحات، لعبة أتقنتها جداً تلك المدينة.
لنغادر بحري، ونبدأ مشوارنا السريع في المنطقة الأوربية من المدينة (أو التي كانت ذات طابع أوربي)، هنا نتمشى في شارع النبي دانيال، وبسطات كتبه الممتدة إلى اللانهاية، هنا المركز الثقافي الفرنسي، بن برازيلي، وشارع صفية زغلول، ميدان المحطة الذي يزينه تمثال سعد زغلول، هذا التمثال الذي أبدعه النحات العظيم محمود مختار.
أصابعي ترتجف، وأنا أكتب تلك الأسماء العظيمة، زغلول ومختار، وما أكثر التماثيل والأماكن والتواريخ العظيمة في الإسكندرية! بل في تلك المنطقة تحديداً التي تجعل الأصابع ترتجف أثناء كتابتها، كأوبرا سيد درويش، التي يزينها تمثال نوبار باشا، تمثال أحمد عرابي، ما يطلق عليها مكتبة الإسكندرية، ونحن هنا ما زلنا في أول منطقة على الكورنيش بعد بحري، ولكم أن تتخيلوا هذه الكيلومترات الـ١٧ كيف يمكن أن نقطعها، بوجهها البحري (المطل على البحر) أو وجهها القبلي (بعد سكة الحديد).
يمكننا هنا ربما أن نقف عند محلات شوكوريل، لنروي تاريخ تلك العائلة اليهودية التي اشتهرت بتجارة الأقمشة، ويروي فرع محلاتها في محطة الرمل تاريخ مصر، منذ لحظة ازدهارها في مصر الملكية، تأميمها في عهد عبد الناصر، ومن ثم خصخصتها، وإعادة إحيائها، وما رافقها من دعاوٍ، ومحاكم.
هنا ارتكبت خطأ عظيماً، لأني تجاوزت مسجد المرسي أبو العباس، مقهى فاروق وقصته المعروفة، مسجد القائد إبراهيم، قهوة رجب، تجاوزت الكثير الكثير، لكن من يستطيع أن يقف على كل معالم هذه الكيلومترات القليلة؟
بالطبع لن أستطيع أن أروي حكاية هذه المدينة أبداً، (ومن يستطيع أصلاً) لا في مقالة ولا كتاب، لكن تأملوا فقط أسماء أحيائها، ربما ينبئكم حدسكم عن هذا التاريخ الطويل، من كليوباترا، من كامب شيزار، محرم بيه، شارع فؤاد، شارع جمال عبد الناصر.
كُتب عن هذه المدينة الكثير، بل الكثير الكثير، وبكل أشكال العلاقة الممكنة، ربما أشهرهم هي رباعية الإسكندرية لداريل (سأقول عنه شيئاً حزيناً في آخر المادة)، لكن تبقى كتابات أبنائها ومن عاشوا فيها هي الأجمل، أستطيع أن أذكر ربما من الأعمال الكلاسيكية روايات إدوار خراط (إسكندريتي)، و(يا بنات الإسكندرية)، ومن المعاصرين عاشق الإسكندرية، وابنها علاء خالد، صاحب كتاب (وجوه سَكندرية)
وعود على بدء
الإسكندرية التي تضيع منك إلى الأبد… هل يمكن أن تضيع؟
للأسف بدأ النظام الحالي، يعتدي على المدينة وتاريخها، كما يعتدي على تاريخ البلاد كلها؛ فبعد عودتي إليها بعد فراق ٩ سنوات، أحزنني كيف تم انتهاك تاريخ هذه المدينة، فمسرح السلام قد هُدم، وبُني مكانه برجان (كنت قد حضرت مسرحية الزعيم لعادل إمام في هذا المسرح الصيفي عام ١٩٩٧، وكم سررت وقتها حين رأيت بشكل شخصي رجاء الجداوي).
فيلا أمبرون التاريخية تم هدمها أيضاً، وبُني مكانها برجان. هذه الفيلا سكن فيها لورنس داريل، كتب فيها رباعيته الشهيرة التي كانت بوابة دخوله لعالم الأدباء الخالدين. وحتى بعضهم يتحدث عن مشروع لهدم فيلا عزيزة فهمي، تلك التحفة الأثرية المهملة منذ أكثر من نصف قرن، رغم أنها تقع في قلب كورنيش الإسكندرية.
النفسية محتاجة الإسكندرية
هذه ليست فقط كلمات أغنية لمحمد الشرنوبي، أو كلمات غزل لمدينة نحبها. هي ربما حقيقة علمية، فمنذ عدة أشهر مررت بحالة نفسية صعبة، بدأت إثرها حتى بتناول أدوية اكتئاب، بدأت طاقتي تنخفض، كنت أشعر بتعب حتى للسير أقل من كيلو متر بين بيتي وأقرب محطة مترو للذهاب للعمل. ارتفع ضغطي، وبدأت أفكر جدياً بتناول أدوية لمعالجة ارتفاع ضغط الدم، لكن بعدها قلت لنفسي لأجرب، لمَ لا؟ ربما تكون الإسكندرية فعلاً هي دوائي، فسافرت إليها ١٠ أيام، مشيت في اليوم الأول أكثر من ٧ كم، بقيت لساعات وساعات أمشي دون تعب، لم أعرف ماذا يعني أن يتعب الجسد. أحسست بنشاط رهيب، وحين عاد ضغط الدم لدي عاد إلى الأرقام الطبيعية، رميت بأدوية الاكتئاب.
علاجي كان فعلاً رحلة إلى الإسكندرية
على صفحات الفيس، تجد الآلاف الذين يرددون أن “النفسية محتاجة الإسكندرية”، أو كل ما تحتاجه هو السفر للإسكندرية وهي ستتكفل بحل كل آلامك. هي ليست مجازاً، بل أعتقد أنها حقيقة عاشها الكثيرون غيري حتى تحولت إلى بدهية!
ربما أكون هنا غير علمي، ربما هنا أنزع معطفي الطبي الذي أحبه؛ لأتحدث بلغة السحر والسر، هذه اللغة التي لا أحبها، وعادة أكون متمسكاً جداً بمعطفي الطبي حول كل الحقائق… لكن، ألم أقل لكم منذ البداية أن للإسكندرية دوماً استثناء.
___________________________
من مقالات العدد السابع من مجلة (العربي القديم) كانون الثاني/ يناير 2024