وثائقي الجزيرة “صناعة الموت”: بين كشف الحقائق وتغييب العدالة
بينما تحولت صور قيصر إلى أداة ضغط سياسي وقانوني، فإن فيلم "صناعة الموت" اكتفى بالعرض البصري دون أن يقدّم الأسماء والملفات الأمنية التي تُدين بشكل مباشر

نوار الماغوط – العربي القديم
في زمنٍ تحوّلت فيه المأساة السورية إلى مادة إعلامية تتناوب عليها الشاشات، جاءت شبكة الجزيرة عبر برنامج “المتحري” لتعرض فيلمًا بعنوان “صناعة الموت”. الوثائقي أعدّه الصحفي اليمني جمال المليكي، ويزعم أنه يكشف مصير أكثر من مليون سوري اعتقلهم نظام بشار الأسد، ويعرض تفاصيل عن مقتل الآلاف منهم ودفنهم في مقابر جماعية أو تحت مبانٍ لإخفاء الجريمة].
لكن السؤال يبقى: هل نقل الفيلم الحقيقة كاملة، أم اكتفى بسطحها المثير تاركًا لبّها – أي العدالة – بعيدًا عن الضوء؟
صور صادمة… بلا أسماء
الفيلم قدّم صورًا مسرّبة (قُدّرت بحوالي ستة آلاف صورة) لضحايا أُعدموا أو قضوا تحت التعذيب بطرق وحشية، من بينها الخنق بأكياس بلاستيكية والإطلاق المباشر للنار على الرأس، والتجويع حتى الموت. كما كشف المليكي أن الفريق وصل إلى الطبيب الشرعي الذي فحص تلك الجثث، وأجرى مقابلة حصرية معه.
هذه المواد بحد ذاتها صادمة، لكنها أعادت إلى الأذهان تجربة “قيصر” الشهيرة عام 2014، التي فجّرت غضبًا دوليًا وأدت إلى صدور قانون قيصر الأميركي للعقوبات. لكن بينما تحولت صور قيصر إلى أداة ضغط سياسي وقانوني، فإن فيلم “صناعة الموت” اكتفى بالعرض البصري دون أن يقدّم الأسماء والملفات الأمنية التي تُدين بشكل مباشر سلسلة القمع.
الحكاية الممنوعة
من الذي كتب التقارير الأمنية التي أوصلت الأبرياء إلى السجون؟ من هو المخبر الذي سلّم جاره مقابل مكاسب شخصية؟ من هو الضابط الذي أشرف على جلسات التعذيب؟ ومن هو العسكري الذي ابتز الأهالي بمبالغ باهظة لقاء خبر عن جثة أو عن مصير مفقود؟
هذه الأسئلة، التي يعرف السوريون أهميتها جيدًا، غابت عن الفيلم. ولعل السبب أن العمل لم يُرد أن يصطدم مباشرة بالمسؤوليات الفردية، مفضلًا البقاء في منطقة آمنة إعلاميًا تثير المشاعر دون أن تُدين بأسماء محددة.
العدالة المؤجلة
إن تغييب الأسماء والملفات ليس خطأً عابرًا، بل هو خيار إعلامي وسياسي. فحين تُعرض المأساة ناقصة، يُسهل على الجناة الإفلات من العقاب. وحين يُقدَّم الضحايا كأرقام مجردة، تُدفن العدالة معهم.
بهذا الشكل، يتحول الفيلم من عمل استقصائي إلى مجرد مادة للتأثير اللحظي. يُبكي الجمهور لكنه لا يفتح الملفات، ويثير الغضب لكنه لا يقدّم الأدلة، ويعيد إنتاج المأساة كسلعة إعلامية بدل أن يضعها في سياقها القانوني
على الرغم من ضخامة مادة الفيلم، يظل الجمهور غير مطلع على الكم الهائل من المعلومات التي احتفظ بها فريق التحقيق الأمني منذ عام 2013. سؤال طبيعي يطرح نفسه: لماذا لم يتعاون هذا الفريق مع جهات دولية، أو منظمات قانونية، أو حتى الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين، الذي يتمتع بمصداقية أوسع وأمان أكبر لمثل هذه الملفات الحساسة؟ .
الإعلام بين التوثيق والتسويق
من جهتها، قد ترد الجزيرة بأن دورها إعلامي توثيقي، لا قضائي أو قانوني، وأن نشر الأسماء بلا أدلة مكتملة قد يعرّض الشهود والضحايا للخطر. كما قد تؤكد أن “صناعة الموت” خطوة إضافية في مسار تغطية القضية السورية، هدفها إبقاء الملف حاضرًا في النقاش العام.
هذه المبررات تبدو منطقية في حدودها المهنية، لكنها لا تعفي الفيلم من مسؤوليته. فالإعلام الاستقصائي، بحكم طبيعته، لا يكتفي بإثارة الأسئلة، بل يقدّم معطيات يمكن البناء عليها قانونيًا أو سياسيًا. وإذا كانت لدى فريق التحقيق وثائق أو شهادات حساسة، فإن عدم إحالتها إلى جهات مختصة يعني تفويت فرصة لتقريب العدالة
الفرق بين الإعلام التوثيقي والإعلام التسويقي يتضح هنا. الأول يحوّل الشهادات إلى أدلة، والأدلة إلى ملفات قانونية قابلة للتقديم أمام المحاكم الدولية. الثاني يكتفي بعرض المأساة كقصة درامية، تُستهلك بسرعة وتُنسى بعدها.
حماية الشهود أمر مفهوم، لكن حماية الجناة عبر تغييب هويتهم أمر مختلف. إن عرض المأساة ناقصة، من دون تحديد المسؤوليات الفردية، يسمح للجناة بالإفلات من العقاب ويحوّل الضحايا إلى مجرد صور في الأرشيف.
المسؤولية الأخلاقية تقتضي تحويل هذه المواد إلى ملفات قانونية قابلة للتقاضي، بدل الاكتفاء بتقديمها كمادة إعلامية استهلاكية. الفرق هنا واضح بين الإعلام الذي يكتفي بالتأثير اللحظي والإعلام الذي يسهم في بناء ذاكرة جماعية يمكن أن تفتح الطريق أمام العدالة الانتقالية
ما يحتاجه السوريون
ما يحتاجه السوريون ليس المزيد من الأفلام التي تستدرّ دموعهم، بل مشروعًا وطنيًا ودوليًا شاملًا للتوثيق:
- أرشفة الأسماء الكاملة للضحايا والمفقودين.
- كشف أسماء الجلادين والضباط والمخبرين المتورطين.
- نشر محاضر الضبوط الأمنية والتقارير الموقعة بأيدي منفذي الجريمة.
- توثيق شبكات الابتزاز المالي التي دفعت آلاف العائلات مبالغ باهظة لمعرفة مصير أبنائها.
بهذه الأرشفة وحدها يمكن تحويل المأساة من سلعة إعلامية إلى قضية قانونية، ومن ذكرى موجعة إلى أساس للعدالة الانتقالية.
إن فيلم ” صناعة الموت “ مثّل خطوة جريئة في كشف بعض جوانب آلة القتل، لكنه ظل ناقصًا لأنه لم يفتح الأرشيف ولم يذكر الأسماء. لقد ترك الضحايا بلا هوية، والجلادين بلا وجوه، والعدالة مؤجلة إلى إشعار آخر.
الحقيقة أن صناعة الموت لم تتوقف، فهي مستمرة في نشرات الأخبار. وما يحتاجه السوريون اليوم ليس صناعة جديدة للدموع، بل ذاكرة موثقة تُفتح بها أبواب العدالة مهما طال الزمن.