الرأي العام

قروض مشروطة وسيادة منقوصة: قراءة في الدور الخفي للبنك الدولي

إننا أمام "مرحلة اختبار": فإما أن تتحول هذه التحركات إلى مشروع نهضة اقتصادية حقيقية، أو أن تتوقف عند حدود الإعلانات واللقاءات الدبلوماسية.

عدي شيخ صالح – العربي القديم  

أعلن “مصرف سوريا المركزي” أن الحكومة السورية الجديدة لن تلجأ إلى الاقتراض من البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي، تنفيذًا لتوجيهات الرئيس أحمد الشرع. وقد جاء هذا القرار ضمن رؤية وطنية تقوم على بناء اقتصاد منتج ومستقل، دون الارتهان للمؤسسات الدولية التي تُعرف بشروطها القاسية. لكن اللافت أن القرار لم يكن منعزلًا، بل جاء متزامنًا مع تحركات دبلوماسية واقتصادية فعلية تعكس ملامح “الخطة البديلة”، التي بدأ تنفيذها ميدانيًا.

أولاً- آلية عمل البنك الدولي: حين تُقايَض القروض بالسيادة

البنك الدولي هو مؤسسة مالية دولية أُنشئت عام 1944 ضمن منظومة “بريتون وودز”، إلى جانب صندوق النقد الدولي، بهدف إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ثم تحوّل لاحقًا إلى أداة تمويل للدول النامية. ورغم أنه يُعرّف نفسه كمؤسسة “تنموية”، إلا أن آلية عمله تكشف عن جانب سياسي واقتصادي بالغ التأثير على سيادة الدول المقترضة.

  • المدخل: القرض التنموي المشروط

حين تتقدم دولة ما بطلب قرض، يقوم البنك بإرسال بعثات تقييم اقتصادي، تدرس الوضع المالي والنقدي وهيكل الاقتصاد، ثم يقترح ما يُعرف بـ”برنامج الإصلاح الهيكلي”. هذا البرنامج لا يكون اختيارياً، بل شرطًا أساسيًا لصرف القرض.

وهنا تبدأ “المقايضة”: المال مقابل تغييرات جذرية في السياسة الاقتصادية.

  • الشروط الأساسية  (“وصفات” البنك الدولي)

غالبًا ما تشمل هذه البرامج:

  • رفع الدعم عن السلع الأساسية (الخبز، الوقود، الكهرباء)، مما يرفع كلفة المعيشة ويؤدي إلى تآكل الطبقة الوسطى.
    • زيادة الضرائب غير المباشرة (ضريبة القيمة المضافة)، التي يتحمل عبئها الفقراء أكثر من الأغنياء.
    • خصخصة القطاع العام، أي بيع مؤسسات الدولة للقطاع الخاص المحلي أو الأجنبي.
    • تحرير سعر الصرف، ما يؤدي أحيانًا إلى انهيار العملة وارتفاع الأسعار.
    • فتح الأسواق أمام المنافسة الأجنبية دون حماية للمنتج الوطني.
  • التأثير على القرار السيادي :

بمجرد دخول الدولة في هذه المنظومة، تصبح ملزمة بتقارير دورية للبنك، وتتعرض لضغوط مستمرة لتنفيذ التوصيات. وهذا يعني أن السياسات الاقتصادية والاجتماعية تُصاغ في جزء كبير منها خارج حدود الدولة، ما يحد من قدرة الحكومات على اتخاذ قرارات مستقلة تراعي خصوصية المجتمع.

  • الأثر الاجتماعي والسياسي :

رغم أن الهدف المعلن هو “تصحيح الاقتصاد”، إلا أن التجارب أظهرت أن هذه السياسات قد تؤدي إلى:

  • تفاقم معدلات الفقر والبطالة.
    • احتجاجات شعبية واسعة كما حدث في الإكوادور، الأرجنتين، تونس، الأردن.
    • زيادة التبعية الاقتصادية، حيث تحتاج الدولة لقروض إضافية لسداد القروض السابقة.
  • أمثلة دولية:
    • الأرجنتين: دخلت في أزمات تضخم وانكماش متتالية بعد برامج الإصلاح الهيكلي، مما اضطرها لإعلان إفلاس جزئي.
    • اليونان: فرضت عليها شروط قاسية بعد أزمة الديون 2010، شملت تقليص رواتب المتقاعدين وبيع الموانئ.
    • تونس: شهدت موجة احتجاجات بعد رفع الدعم عن الطاقة ضمن توصيات البنك الدولي وصندوق النقد.

ثانياً- خطة الدولة البديلة: تنويع الشركاء بدلًا من الارتهان للمؤسسات

المصرف السوري لم يكتف برفض القروض، بل أرفق قراره بخطة بديلة رباعية، تقوم على:

  • الاقتراض والدعم من الدول الصديقة:

وقد بدأت هذه الخطة تؤتي ثمارها، حيث استقبل الرئيس أحمد الشرع في قصر الشعب بدمشق الدكتور عبد الله بن علي الدبيخي، مساعد وزير الاستثمار السعودي، وتم خلال اللقاء استعراض آفاق التعاون الاستثماري بين البلدين، بما يعزز الدعم الخليجي لسوريا خارج إطار البنك الدولي.

  • الاعتماد على الثروات الباطنية:

تفعيل الاستثمار في النفط والغاز والفوسفات، بالشراكة مع أطراف لا تفرض شروطًا سياسية، مع ضمان الشفافية وحفظ السيادة.

  • تنويع مصادر الطاقة عبر الحلفاء:

في هذا السياق، تم توقيع اتفاقية مع أذربيجان لإمداد سوريا بالغاز الطبيعي، وهو إنجاز يُسهم في كسر الاحتكار والضغوط الغربية، ويضع أسسًا لتعاون استراتيجي جديد في قطاع الطاقة.

  • تهيئة بيئة استثمارية آمنة:

بما يشمل إصلاح القوانين، وخلق مناخ خالٍ من الابتزاز والفساد، يسمح بجذب رؤوس الأموال الوطنية والخارجية.

ثالثاً- تحليل الموقف: بداية تحوّل لا مجرد إعلان

قرار الابتعاد عن البنك الدولي وصندوق النقد لم يكن مجرد خطوة سياسية أو خطاب شعبي لكسب الرأي العام، بل يبدو أنه جزء من إستراتيجية اقتصادية–دبلوماسية أوسع، تتضمن تنويع الشركاء والموارد، والبحث عن بدائل تمويلية أقل إملاءً وأكثر توافقًا مع المصالح الوطنية.

التحركات الأخيرة تؤكد ذلك:

  • التقارب مع السعودية وفتح قنوات استثمارية مباشرة، وهو مؤشر على عودة دمشق إلى قلب العمق العربي سياسيًا واقتصاديًا.
    • اتفاقية الغاز مع أذربيجان، التي تمثل خطوة نحو كسر الحصار الطاقوي وتخفيف الضغط على قطاع الكهرباء والصناعة، مع تعزيز شبكة العلاقات مع دول غير غربية.

لكن من المهم إدراك أن تغيير مسار التمويل والتحالفات لا يعني تلقائيًا نجاح الخطة. فهناك عدة عناصر حاسمة ستحدد مصير هذا التوجه:

  • قدرة الدولة على التنفيذ :

الاتفاقيات، مهما كانت قوية على الورق، قد تبقى حبرًا على ورق إذا لم ترافقها إدارة فعّالة، وسرعة في إزالة العقبات البيروقراطية، وضمان بيئة أعمال جاذبة.

  • محاربة الفساد وضمان الشفافية :

الاستثمارات الخارجية تحتاج إلى أرضية نظيفة، تحمي المستثمر من الابتزاز، وتحمي المال العام من التسرب. وهذا يتطلب إصلاحات قانونية ورقابية جادة.

  • إدارة التوازنات الجيوسياسية :

فتح أبواب التعاون مع الخليج وأذربيجان قد يثير حفيظة بعض القوى الدولية، ما يستدعي حنكة سياسية للحفاظ على استقلال القرار وتجنب الدخول في محاور صدامية.

  • تحقيق أثر ملموس على حياة المواطن:

القيمة الحقيقية لأي تحول اقتصادي تظهر في السوق المحلي: انخفاض الأسعار، توفر فرص عمل، تحسن الخدمات. إذا لم يشعر المواطن بهذه النتائج، ستفقد الخطة زخمها الشعبي.

من منظور استراتيجي، يمكن القول إننا أمام “مرحلة اختبار”: فإما أن تتحول هذه التحركات إلى مشروع نهضة اقتصادية حقيقية، أو أن تتوقف عند حدود الإعلانات واللقاءات الدبلوماسية.

رابعاً- ماليزيا كنموذج: السيادة أولًا

ليست سوريا الدولة الوحيدة التي اختارت الابتعاد عن قروض البنك الدولي، فماليزيا قدمت تجربة ملهمة في هذا المجال.

خلال الأزمة المالية الآسيوية عام 1997، رفض رئيس الوزراء مهاتير محمد اللجوء إلى البنك الدولي وصندوق النقد، لأنهما اشترطا رفع الدعم، تحرير سعر الصرف، وخصخصة المؤسسات الحكومية.

بدلًا من ذلك، تبنت ماليزيا حلولًا محلية:

  • فرضت ضوابط صارمة على حركة رأس المال لمنع هروب الأموال.
    • ثبّتت سعر صرف عملتها (الرنجيت) بدلًا من تعويمها.
    • ضخّت استثمارات حكومية في قطاعات الإنتاج لدعم الاقتصاد المحلي.

النتيجة كانت أن ماليزيا تعافت أسرع من دول الجوار التي تبنت برامج البنك الدولي، وحافظت على استقلال قرارها الاقتصادي، ما جعل تجربتها تُدرّس اليوم كمثال على إمكانية مقاومة الضغوط المالية الدولية.

الخاتمة:

رفض القروض المشروطة ليس نهاية الطريق بل بدايته. وما نشهده اليوم من تحركات نحو شركاء جدد في الخليج وآسيا الوسطى، يمثل فرصة لبناء اقتصاد مستقل وسيادي، شرط أن يقترن بالإصلاح الداخلي.

فالاستقلال عن البنك الدولي يجب أن يترافق مع استقلال عن الفساد الداخلي، وامتلاك رؤية إنتاجية لا ريعية.

وبين السيادة والشراكة، هناك طريق ثالث ممكن… شرط أن نمضي فيه بعقل بارد وقلب مسؤول.

زر الذهاب إلى الأعلى