الرأي العام

قراءة تفاؤليَّة لمستقبل سوريا بعد شهر من الآن

تخلَّى قادة إيران عن صبيانهم من بشَّار الأسد حتَّى أصغر جندي من حملة البيجر؛ وهذا يكفي لموعظة طويلة الأمد ستمتدُّ قرنًا من الزَّمن على أقلِّ تقدير

د. مهنا بلال الرشيد – العربي القديم

طلب الأمين العامِّ لحزب الله اللُّبنانيِّ نعيم القاسم من المملكة العربيَّة السُّعوديَّة أن تفتح صفحة جديدة مع الحزب، وقد جاءت هذه الدَّعوة بعدما استطاعت المملكة العربيَّة السُّعوديَّة بالتَّعاون مع فرنسا من حشد 142 دولة للتَّصويت لصالح حلِّ الدَّولتين في فلسطين المحتلَّة، وسبق هذا الحشد السُّعوديُّ-الفرنسيُّ توجُّه قادة العالم إلى نيويورك لحضور أسبوع الجمعيَّة العامَّة للأمم المتَّحدة بين 22-30 أيلول-سبتمبر 2025، وسيشارك في هذا الأسبوع معظم قادة العالم، وسيصل الرَّئيس السُّوريِّ السَّيِّد أحمد الشَّرع للمشاركة في هذا الأسبوع، وسيلقي كلمة الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة بعد خمسين سنة من آخر كلمة ألقاها رئيس سوريا الأسبق نور الدِّين الأتاسي هناك.

وقد وصل وزير خارجيَّة سوريا السَّيِّد أسعد الشَّيبانيُّ إلى أمريكا تحضيرًا لجدول أعمال هذه الزِّيارة، ورفع علم الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة الجديد في واشنطن، وتبادل مع السَّاسة الأمريكيِّين مجمل الأفكار البنَّاءة لرفع قانون قيصر وبنود عقوباته كلِّها عن سوريا، وظهرت المفاوضات السُّوريَّة-الإسرائيليَّة على العلن من أجل العودة إلى اتِّفاق فضِّ الاشتباك الموقَّع سنة 1974، ومن أجل التَّباحث عن آفاق محتملة للعودة إلى المفاوضات المباشرة أو غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل بعدما توقَّفت في خطواتها الأخيرة أيَّام رئاسة بيل كلينتون، وزعم حافظ الأسد وقتها بأنَّه أوقف المفاوضات بعدما اختلف مع الإسرائيليِّين على أمتار قليلة من بحيرة طبريَّا، وقد روَّج الإعلام السُّوريُّ وقتها لإطلاق لقب (بطل الحرب والسَّلام) على حافظ الأسد، لكن يبدو أنَّ حافظ الأسد أدرك منذ ذلك الوقت أنَّ توقيع اتِّفاق سلام مع إسرائيل سينهي أحلامه بتوريث ابنه المجرم الأرعن حُكم سوريا؛ لذلك فضَّل مع باقي محور المقاومة المزعوم واليمين الإسرائيليِّ المتطرِّف البقاء في حالة اللَّاسلم واللَّاحرب من أجل تناوش محور المقاومة المزعوم مع حكومة اليمين المتطرِّف كلَّما دقَّ الكوز بالجرَّة وكلَّما احتاج واحدة من قادة الطَّرفين (اليمين المتطرِّف ومحور المقاومة المزعوم) إلى انتصار وهميٍّ لتسويق نفسه للنَّاخب الإسرائيليِّ أو لتسويق الحفاظ على مكاسب المقاومة وظهور قادة حماس وحزب الله وحافظ وبشَّار الأسد بمظهر الأبطال؛ ممَّا يمكِّنهم من توريث أبنائهم مراكزهم القياديَّة.

كيف خرجت الأمور عن السَّيطرة؟

أخرج طوفان الأقصى في السَّابع من تشرين الأوَّل-أكتوبر 2023 هذا النَّوع من سيناريوهات المناوشات المرسومة عن السَّيطرة؛ لأنَّ قادة المقاومة المزعومة يريدون رافعة شعبيَّة جديدة لهم ونتنياهو يريد الغدر بهم مثلما غدر بمن قبلهم، فخرجت الأمور عن السَّيطرة، وزاد هذا الانفلات موت رئيس إيران إبراهيم رئيسي مع وزير خارجيَّته في حادث مروحيَّة مشبوه في ظلِّ تأزُّم المفاوضات حول برنامج إيران النَّوويِّ وتحريك إيران أوراق أتباعها (حزب الله وحماس والمخلوع بشَّار الأسد) للمفاوضة عليهم بدل المفاوضة على برنامجها النَّوويِّ؛ فغدرت إسرائيل بهؤلاء المذكورين كلِّهم في ظلِّ انتهاء أدوارهم وتمادي المجرم المخلوع بشَّار الأسد في جرائمه ضدَّ الشَّعب السُّوريِّ.

وفي الوقت ذاته وخلال خمس عشرة سنة من الثَّورة السُّوريَّة ضدَّ المجرم المخلوع بشَّار الأسد ظهرت مشاريع سياسيَّة لدول متعدِّدة في سوريا، وفي مقدِّمتها مشروع نتنياهو وربيبه عزمي بشارة وباقي جنودهم لتفتيت سوريا من خلال دعم مثقَّفي عزمي بشارة وتقوية انفصاليِّي قسد في الجزيرة السُّوريَّة أو الجزيرة الفراتيَّة وانفصاليِّي الهجري في السُّويداء وانفصاليِّي غزال غزال، وفلول المجرم المخلوع بشَّار الأسد في السَّاحل السُّوريِّ؛ ليظهر (زعيط ومعيط ونطَّاط الحيط وباقي شلَّة الشَّنترحفانا بحسب منشورات لفيصل قاسم وعلي فرزات)، وانكشف كثير ممَّن تسوِّل لهم نفوسهم الدَّنيئة تحقيق بعض المكاسب الشَّخصيَّة وإن كانت على حساب وحدة سوريا، وكان هذا المشروع الإسرائيليُّ (مشروع نتنياهو-عزمي بشارة) أخطر المشاريع على وحدة سوريا، وبدأ الحكومة السُّوريَّة الجديدة بتفكيكه من خلال إخماد تمرُّد فلول السَّاحل والاتِّفاق المتعثِّر مع قسد والاتِّفاق مع الوطنيِّين من أهلنا في السُّويداء؛ فأُفشل هذا المشروع؛ لكنَّ مفاعليه السَّلبيَّة ماتزال مستمرَّة حتَّى وقتنا الرَّاهن، وتحتاج الدَّولة مزيدًا من الوقت لتفكيكه نهائيًّا؛ لأنَّه رُسم خلال خمس عشرة سنة، ولم يُرسم في يوم أو يومين.

أمَّا المشاريع الأخرى؛ فقد تمثَّل المشروع الأوَّل منها بالمشروع الإيرانيِّ الَّذي اندحر باندحار المجرم المخلوع بشَّار الأسد مع بقاء جزء بسيط من مفاعيله السَّلبيَّة، وهو مشروع انفصاليِّي جبال قنديل داخل قسد، الَّتي تمثِّل الالتقاء الوحيد بين مصالح إسرائيل ومصالح إيران؛ حيث تدعم إيران قسد وإرهابيِّي قنديل على أساس ولاء القوميَّة الكرديَّة لأمِّها القوميَّة الفارسيَّة، وتدعم إسرائيل قسد لتمزيق سوريا وتحقيق مبدأ (فرِّق تسد)، ولتهدِّد إيران وإسرائيل ومن خلال قسد كلًّا من الأمن القوميِّ السُّوريِّ والأمن القوميِّ التِّركيِّ بقسد ذاتها. وتمثَّل المشروع الثَّاني بالمشروع التُّركيِّ أو مشروع تركيا الحريصة على أمنها القوميِّ، وتتقاطع مصالحها في مشروعها هذا مع مشروع الحكومة السُّوريَّة الجديدة في رغبتها بالحفاظ على وحدة أراضيها، وإنهاء المشاريع الانفصاليَّة، وإحباط محاولات إرهابيِّي قنديل، وبرغم الاتِّفاق الكبير بين مصالح تريكا أو مصالح المشروع التِّركيِّ ومصالح سوريا، أرى بعض نقاط الاختلاف القليلة أو أرى شيئًا قليلًا من تضارب المصالح بين هذين المشروعين، ويتمثَّل في اعتماد تركيا على كثير من قادة حماس (أي قادة الأخوان المسلمين) والتَّلاقي مع من يدعمهم في فلسطين وسوريا وقطر وغيرها، مع أنَّ قادة حماس من الأخوان المسلمين ذاتهم منقسمون إلى قسمين؛ قسم يتعاون مع إيران، وانتهى تأثيره باغتيال إسماعيل هنيَّة في طهران، وقسم ما زال يعمل في قطر، وقد حاول نتنياهو أن يتخلَّص منهم؛ ليقدِّم إنجازًا جديدًا لناخبيه بسبب أزمته المستمرِّة مذن الانتخابات الماضية وحتَّى الانتخابات القادمة في إسرائيل؛ لكنَّه لم يُفلح في استهدافهم في قطر؛ ممَّا يدلُّ على تطوير قادة حماس بروتوكولات اجتماعاتهم، ولسنا في صدد تشريح مشروع الأخوان المسلمين ذاته والمشاريع القوميَّة الزَّائفة المدعومة من فلول البعث أو من المواطن الإسرائيليِّ عزمي بشارة؛ لذلك سنكتفي بالإشارة إلى فشل مشاريع الأحزاب الدِّينيَّة والأحزاب القوميَّة خلال نصف قرن مرير من الزَّمن.

أمَّا المشروع الثَّالث الَّذي يتماهى تمامًا مع أهداف الثَّورة السُّوريَّة وحكومة سوريا الجديدة فهو المشروع السُّعوديُّ؛ لأنَّه مشروع ينطلق من الحرص على وحدة سوريا وأمن دول المنطقة كلِّها، ويؤكِّد على ضرورة حلِّ الدَّولتين من أجل منح الفلسطينيِّين حقَّ العيش الآمن في دولتهم وعاصمتها مدينة القدس الشَّرقيَّة، كما يهدف إلى الوقوف في وجه مطامع نتنياهو التَّوسُّعيَّة، ولا يرمي هذا المشروع إلى تمزيق أيِّ دولة للحصول على المكاسب من خلال تمزيقها، وتزيد قوَّة المملكة الجيوسياسيَّة من تأثير مشروعها بالإضافة إلى قدرتها على تسويقه وموقفها العادل من الشَّعب السُّوريِّ بمكوِّناته كلِّها، وقد تابع السُّوريُّون سلوك المملكة العربيِّة السُّعوديَّة وسلوك السَّيِّد وليد البخاريِّ سفير المملكة في بيروت، ورأوا حرصه على مكوِّنات الشَّعب اللُّبنانيِّ كلِّها وعلاقتة الوثيقة بكلٍّ من نبيه برِّي ووليد جنبلاط والدُّكتور سمير جعجع وغيرهم، ولم تنزع السُّعوديَّة نحو دعم أيِّ مكوِّن لبنانيٍّ على حساب أيِّ مكوِّن لبنانيٍّ آخر؛ حتَّى عاد اللُّبنانيُّون ذاتهم إلى الطَّلب من المملكة العربيَّة السُّعوديَّة بالتَّدخُّل أو لحلِّ مشاكلهم أو ل صفحات جديدة معهم.

أمين عام حزب الله نعيم القاسم يرغب بالعودة إلى الحضن العربيِّ

يبدو أنَّ قيادة حزب الله اللُّبنانيِّ الجديدة ورئيسه الجديد نعيم القاسم غسلوا أيديهم تمامًا من المشروع الإيرانيِّ في المنطقة بعد مقتل قادة حماس وقادة حزب الله دون أيِّ رفَّة رمش من إيران؛ لذلك طلب نعيم القاسم من المملكة العربيَّة السُّعوديَّة فتحَ صفحة جديدة مع حزب الله، وأتوقَّع أن تنجح هذه الدَّعوة إن صدقت نوايا قادة حزب الله الجدد، وإن تدخَّل رئيس مجلس النُّوَّاب اللُّبنانيِّ نبيه برِّي في تقريب وجهات النَّظر؛ ليرجع شيعة لبنان إلى حضنهم العربيِّ بعدما أورثت إيران جنوب لبنان دمارًا كثيرًا من أجل حماية المشروع الفارسيِّ لا لحماية أيِّ شيء سواه، وفي المحصِّلة تخلَّى قادة إيران عن صبيانهم من بشَّار الأسد حتَّى أصغر جندي من حملة البيجر؛ وهذا يكفي لموعظة طويلة الأمد ستمتدُّ قرنًا من الزَّمن على أقلِّ تقدير، ويبدو أنَّ قادة حزب الله أدركوا التَّوافق التَّامَّ بين قادة سوريا الجدد وقادة المملكة العربيَّة السُّعوديَّة، والتقطوا رغبة سوريا بتجاوز جراحات الماضي الَّتي تسبَّبت فيها جرائم حزب الله الكثيرة في سوريا تلبية لأوامر إيران ولمساندة المجرم المخلوع بشَّار الأسد دون جدوى.

نتنياهو يجتمع بقادة حزبه

أدرك شيعة لبنان أن ليس لهم إلَّا الحضن العربيَّ، ويعرف معظم أهلنا في السُّويداء ذلك تمامًا، وسيعرف الآخرون أنَّ وعي وليد جنبلاط في السِّياسة أكبر من وعيهم كلِّهم، لو أوهمهم المجرم نتنياهو بمكاسب التَّمرُّد؛ لأنَّ مستقبل نتنياهو ذاته على المحكِّ أمام قوُّة الدِّبلوماسيَّة السُّوريَّة-السُّعوديَّة الجديدة؛ فهو بحاجة إلى اتِّخاذ مواقف صعبة بعدما حشدت المملكة العربيَّة السُّعوديَّة العالم من أجل حلِّ الدَّولتين؛ فإن اختار السَّلام قبل تحرير الأسرى فهو خاسر، وإن اختار تحدِّي العالم بعدوانه فهو خاسر أيضًا؛ لذلك يعوِّل على دعم الانفصاليِّين السُّوريِّين برغم ضعف تأثيرهم، وسيضطرَّ إلى بيعهم بسبب التَّفاوض، وسيكون لنتائج اجتماع نتنياهو مع باقي حزبه اليوم نتائج ملموسة على مستقبل المنطقة، وستتضح الرُّؤية أكثر بعد اجتماع رئيس سوريا السِّيِّد أحمد الشَّرع مع دونالد ترامب وكثير من قادة العالم وتنسيقه الدَّائم مع السُّعوديَّة وتركيا، وستظهر نتائج أكثر وضوحًا، وستنعكس النَّتائج الإيجابيَّة المتوقَّعة بعد شهر من وقتنا الرَّاهن على واقع سوريا؛ وستنتهي أزمة السُّويداء وأزمة قسد معها، وستتفاقم أزمة نتنياهو ذاته؛ إذ سيقترب موعد الانتخابات الإسرائيليَّة يومًا بعد آخر؛ لتجري في أواخر الصِّيف القادم، وإن لم يجد نتنياهو حيلة جديدة لرفع شعبيَّته سينخفض تمثيل حزبه في الكنيسيت، وسيظهر ائتلاف حكوميٌّ جديد، ويبدو أنَّني متفائل في قراءتي هذه، وأراها قراءة واقعيَّة مدعومة بكثير من المعطيات، إن لم تظهر مفاجأة هنا، وأخرى هناك!

زر الذهاب إلى الأعلى