فنون وآداب

من الجريمة إلى الشاشة: كيف صنع النظام ذاكرته البصرية

أعاد حسن م يوسف، ككاتبٍ للنظام، تعريف الكتابة ذاتها من فعل مقاومة إلى طقسِ تمجيدٍ واسترضاء.

محمد صبّاح * العربي القديم

«كلّ الفن دعاية من نوع ما. السؤال ليس إن كان فناً دعائياً، بل أيّ نوعٍ من الدعاية هو.» جورج أورويل

منذ أن نطق أورويل بهذه الجملة الصافية، صار الفنُّ محكاً أخلاقياً للسلطة. فالفنّ الذي يُحرِّر الوعي هو نقيض الدعاية التي تستعبده. وفي الحالة السورية، تحوّل الفنّ الدرامي إلى ميدانٍ للصراع على الوعي، حيث تمارس السلطة أقصى طاقاتها في تحويل الصورة إلى أداة قمعٍ ناعمة، تُعيد عبرها صياغة التاريخ والهوية والذاكرة.

إنّ ما قدّمه نجدت أنزور وحسن يوسف في السنوات الأخيرة ليس أعمالًا فنية بالمعنى الجمالي، بل نصوصٌ سمعيّة وبصريّة للتواطؤ مع القمع، وتجميل الاستبداد، وتشويه المكوّن الاجتماعي الذي شكّل قلب الثورة السورية.

الفن كسلاح سياسي وصوت للسلطة

لقد أدرك النظام منذ الأيام الأولى أنّ المعركة الحقيقية ليست في الميدان فحسب، بل في المخيّلة الجمعية. ومن هنا جاءت الحاجة إلى «فنانين رسميين» يعيدون إنتاج روايته بلغة الفنّ، في محاولةٍ لتثبيت صورةٍ جديدة للعالم، تُحوّل القاتل إلى بطل، والضحية إلى متهم.

وهكذا صار نجدت أنزور وحسن يوسف من أبرز منفّذي هذه المهمّة الأيديولوجية، حيث قدّما دراما ليست أكثر من امتدادٍ لشريط الأخبار الرسمي، بتمويلٍ حكومي وبنية سردية تخضع للرقابة والرغبة السياسية. فالفنّ هنا لا يُنتج الوعي بل يصنع الطاعة؛ إنه «دراما الانصياع»، لا «دراما السؤال».

ومن أكثر الأمثلة فجاجة على هذا الانصهار بين الفن والدعاية، فيلم «رجل الثورة» الذي كتب نصَّه حسن م يوسف وأنتجته المؤسسة العامة للسينما في دمشق. في هذا العمل، يحاول يوسف أن يُعيد سرد واحدة من أبشع صفحات الحرب _مجزرة الكيماوي _ لا بوصفها جريمةً موثّقة ارتكبها النظام، بل كـ«فبركةٍ إعلامية» حيكت ضدّه. هنا تتحول الكاميرا إلى شاهد زور، والسيناريو إلى وثيقة إنكار جماعيّ للذاكرة، تُعيد تبييض الدم وتبرئة المجرم عبر تقنيات السرد والتمثيل.

لم يكن الفيلم بحثاً في الحقيقة، بل محاكمةً للحقيقة نفسها؛ عملٌ يقلب الوقائع ليجعل الضحية هي من استخدم السلاح المحرّم، ويحوّل المتهم إلى «بطلٍ أخلاقيّ» يقاتل «الإرهاب الإعلامي». بهذا، يصبح الفنّ لدى حسن يوسف أداة «تطهيرٍ رمزي» للسلطة من جرائمها، ومحاولة لتشييد سردية بديلة تقتات على النسيان، وتؤسّس لما يمكن تسميته «البراءة الجمالية للاستبداد».

المخرج نجدت أنزور يتوسط رام يوسف (ابن مؤلف الفيلم الذي شارك في التمثيل) وحسن م يوسف مؤلف الفيلم، أثناء العرض الجماهيري لـ”رجل الثورة” في طرطوس في آذار/ مارس 2018

وإذا كانت مدرسة فرانكفورت (أدورنو، هوركهايمر، بنيامين) قد نبّهت إلى أنّ الفنون في المجتمعات الحديثة تتحوّل إلى سلعٍ جماهيرية تُعيد إنتاج النظام الرأسمالي عبر الترفيه والتنويم الجماعي، فإنّ ما نشهده في الحالة السورية أكثر خطورة: فالفنّ لا يُستعمل لتخدير الوعي فحسب، بل لإعادة برمجته سياسياً وطائفياً .

إنّ نجدت أنزور، عبر أعماله «ما ملكت أيمانكم»، و«رجل الثورة»، و«ملك الرمال»، يقدّم نموذجاً للفنان الذي اندمج في جهاز الهيمنة الثقافية، فصار ينتج خطاباً متكرّراً يعيد تبرير السلطة في كل لقطة ومشهد.

الفنّ عنده ليس لغة حرية، بل آلة أيديولوجية لإعادة تدوير خطاب الدولة: «الثورة مؤامرة»، و«المعارضة إرهاب»، و«الولاء هو الوطنية الوحيدة الممكنة».

تعمل هذه الدراما وفق منطقٍ أدورنيّ صارم: إنها منتج ضمن صناعة ثقافية مغلقة، تُفرغ الفنّ من جوهره النقدي، وتعيد إنتاجه كسلعةٍ دعائية. لا تسعى إلى الإبداع بل إلى إعادة التكرار: التكرار في الصورة، في الحدث، في اللغة، في الفكرة. تكرارٌ يخلق الوهم بالمعنى، ويُميت الإحساس بالواقع. إنها ليست أعمالًا تُشاهد بل تُستهلك كما تُستهلك الإعلانات السياسية. فالمشاهد لا يتلقّى هنا تجربة جمالية، بل عملية تطبيعٍ إدراكيٍّ مع القمع، حيث يتماهى الظلم مع النظام، والنظام مع الوطن، والوطن مع الحاكم.

الطائفية كمنهج بصري والهندسة الأيديولوجية للوعي

لقد تحوّلت الدراما التي ينتجها أنزور وحسن يوسف إلى نوعٍ من «الخطاب التأهيلي للعبودية»: تدريبٌ بصريٌّ على قبول السلطة بوصفها قدراً، وعلى نسيان الجريمة بوصفها «ضرورة وطنية».

في «ما ملكت أيمانكم»، تُرسم صورة المكوّن السني _ الذي خرج من بين صفوفه الوجع الأكبر والثورة الأولى _ ككائنٍ غارقٍ في النفاق والعنف والذكورية، بينما تُمنح الطوائف الأخرى هالة النقاء والتسامح.

هنا لا نكون أمام عملٍ فني، بل أمام هندسة طائفية للوعي، تُعيد تشكيل الهوية السورية وفق خرائط السلطة لا وفق الواقع. الفنّ الذي كان يُفترض أن يُعيد الإنسان إلى ذاته، يُستعمل هنا لتغريب الإنسان عن نفسه.

من منظور فرانكفورت، هذا الشكل من الإنتاج الثقافي يمثّل «الأدلجة في أصفى صورها»: فبدل أن يحرّر الإنسان من الزيف، يُنتج له زيفاً جديداً أكثر جاذبية.

الجمهور يتلقّى الأكاذيب كما لو كانت حقائق جمالية، لأنّها مغلفة ببراعة الإخراج والتقنيات. وهكذا تتحقّق أخطر وظائف الدعاية: أن تُقنعك بأنك تفكّر بحرية، بينما يتم التفكير نيابةً عنك. هذا بالضبط ما تفعله دراما النظام السوري: تمنح المشاهد شعوراً بـ«الانتماء الوطني»، بينما تُعيد ترويضه على الخضوع.

مشهد من فيلم رجل الثورة، يزعم أن رجال الخوذ البيضاء يستخدمون المكياج والأطراف الصناعية لفبركة صور ضحايا مزعومين لقصف نظام الأسد (العربي القديم)

ولأنّ السلطة في جوهرها تسعى إلى احتكار الحقيقة والجمال معًا، فهي تستخدم الفنّ كقناعٍ للهيمنة. نجدت أنزور، بخلفيته البصرية المتقنة، يعرف تماماً أنّ الصورة قادرة على ما لا تقدر عليه البنادق: الصورة لا تقتل الجسد، بل تقتل المعنى. أما حسن يوسف، ككاتبٍ للنظام، فقد أعاد تعريف الكتابة ذاتها من فعل مقاومة إلى طقسِ تمجيدٍ واسترضاء.

كلاهما يمارس وظيفة «المثقف المندمج» كما وصفه أدورنو: المثقف الذي يفقد استقلاله أمام المؤسسات فيتحوّل إلى موظفٍ داخل جهازها الأيديولوجي، ينتج سردياتٍ جاهزة تخدم الاستمرار لا التغيير.

«الفنّ ليس مرآة تعكس الواقع، بل مطرقة تُشكّله.»  برتولت بريخت

المأساة أن أنزور ويوسف حملا المطرقة ليُعيدا بها تشكيل وعي الناس على صورة السلطة، لا على صورة الحقيقة. لم تصبح المطرقة أداة للتحرير، بل أداة لإعادة صقل الوعي وفق القالب الرسميّ. إنّهما يضربان الواقع ليكفّ عن كونه واقعًا، فيتحوّل إلى «رواية رسمية» محروسة بالكاميرات.

الدولة البصرية: حين تقتل الصورة المعنى

إنّ أخطر ما في هذه الظاهرة ليس مضمون الدراما فحسب، بل آليتها الثقافية: فنحن أمام استبدادٍ متطوّرٍ في شكله، لا يحتاج إلى «الرقيب العسكري» ما دام قد وجد «الرقيب الفني».

الرقابة هنا داخلية، مزروعة في ضمير الفنان الذي صار يكتب وفق منطق البقاء لا الإبداع.

وهكذا تموت الأخلاق الفنية حين يُستبدل بها الولاء السياسي، ويُختزل الجمال إلى وظيفةٍ أيديولوجية.

في ضوء نظرية فرانكفورت، يمكن القول إنّ حسن يوسف ونجدت أنزور لا يقدّمان فناً، بل إدارة بصرية للواقع. إنّهما ينتجان نوعاً من «المحاكاة الكاملة» كما وصفها بودريار، حيث تختفي الحقيقة خلف نموذجها المزيّف، ويصبح الكذب أكثر واقعية من الواقع نفسه.

تُقنِع هذه الأعمال الناس بأنّ النظام ضحية، لأن الصورة أبلغ من الدم، ولأن الجمال التقنيّ يغطي على البشاعة الأخلاقية. إنها «جمالية الزيف»، حيث يتحوّل الفنّ إلى رداءٍ أخلاقيّ للعنف.

وهكذا يتكامل مشروع النظام: البندقية تقتل الجسد، والفنّ يقتل المعنى. وعندما يُقتل المعنى، يسهل قتل كلّ شيء آخر. ذلك أنّ الدعاية لا تكتفي بإقناعك بالخطأ، بل تُطفئ فيك القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ. وهنا تتجلّى وظيفة «الفنان الدعائي»: لا أن يكذب فحسب، بل أن يجعل الكذب قابلاً للتصديق.

لقد صار أنزور ويوسف معاً جزءاً من «جهاز الأسطورة» الذي تحدّث عنه هوركهايمر، حيث يُستعمل الفنّ لصناعة الأسطورة السياسية التي تبرّر القمع وتحميه من التفكك.

 الخيانة الجمالية ومأساة المثقف المندمج

ولعلّ المفارقة أنّ هؤلاء، الذين كانوا في بداياتهم يحملون شيئاً من الحسّ الجمالي، انتهوا إلى تخريب المعنى الذي صعدوا منه. فالفنّ عندهم لم يعد بحثاً عن الإنسان، بل دفاعاً عن السلطة. لقد خانوا الفنّ حين جعلوه سلاحاً في يد الحاكم، وخانوا الإنسان حين صمتوا عن صرخته. في زمنٍ يصير فيه الكذب نظاماً شاملاً، يصبح الصمت نوعًا من التواطؤ، ويصبح الفنّ الصادق فعل مقاومة لا مجرد إبداع.

إنّ قراءة أعمال نجدت أنزور وحسن يوسف في ضوء نظرية فرانكفورت تكشف أنّ ما يجري ليس انحرافاً فرديًا، بل آلية سلطةٍ ممنهجة تستخدم الثقافة لإدامة السيطرة. فالنظام الذي يملك الإعلام والسلاح، لا يكتمل نفوذه إلا حين يملك الفنّ أيضًا. عندها تتحول الدراما إلى معسكرٍ للتدجين النفسي، إلى «مصنعٍ لإنتاج الشرعية الجمالية للعنف»، إلى ما يمكن تسميته «الدولة البصرية».

في النهاية، الفنّ الذي لا يُحرّر الوعي يُدجِّنه، والفنان الذي لا يقف إلى جانب الحقيقة، يقف حتمًا ضدّها. إنّ أنزور ويوسف لم يختارا الانتماء للسلطة لأنهما يؤمنان بها، بل لأنّهم عجزا عن احتمال الحرية. الحرية مخيفة، والاستبداد مريح لمن يخشى مواجهة نفسه.

لكنّ التاريخ لا يرحم الفنّ حين يتحوّل إلى بوق، ولا يغفر للمبدع حين يتخلّى عن ضميره مقابل النجاة. فكلّ مشهدٍ صُوّر لتبرير الجريمة، وكلّ كلمةٍ كُتبت لتزيين القبح، ستبقى شاهدًا على زمنٍ خان فيه بعض الفنّانين الفنّ نفسه، وركعوا أمام آلة القمع وهم يبتسمون باسم الجمال.

الدراما كفنّ للإنكار: من التزييف البصري إلى محو الذاكرة

في فيلم «رجل الثورة»، تبلغ الدعاية ذروتها عندما يتحوّل الفن إلى جهاز إنكارٍ شامل، لا يكتفي بإخفاء الجريمة بل يُعيد صياغة الذاكرة الجمعية بحيث تُمحى آثارها الرمزية من الوعي. فالفيلم لا يُنكر مذبحة الكيماوي فحسب، بل يخلق واقعاً بديلاً أكثر إقناعاً من الواقع نفسه، حيث تُصوّر الأكاذيب على أنها حقائق موثقة، ويُقدَّم الإنكار بوصفه نوعًا من البطولة الوطنية.

إننا أمام ما وصفه جان بودريار بـ«الواقع المفرط»؛ أي الواقع الذي لم يعد يحاكي الحقيقة بل يستبدلها بالكامل. فحين يقول النظام «لم يحدث شيء»، تتكفّل الكاميرا بتجسيد هذا النفي بصرياً، فيتحوّل الإنكار إلى تجربة حسية متكاملة. وهكذا تصبح الصورة سلاحاً أخطر من الرصاصة: فهي لا تقتل الجسد بل تمحو أثره من التاريخ.

«رجل الثورة» ليس فيلماً بقدر ما هو مختبر أيديولوجي لمحو الذاكرة السورية، حيث تُستعمل أدوات الفن لا لاستعادة الحقيقة بل لإفنائها. إنه مثال صارخ على كيف يمكن للدراما أن تُمارس ما يسميه أدورنو «العنف الجمالي»، حين تُسخَّر الجماليات لخدمة القبح السياسي. بهذا المعنى، يتحوّل الفن من وسيلة للتحرر إلى فنّ للإنكار، ومن لغة للإنسان إلى خطابٍ للسلطة.

وهنا تكمن المأساة الكبرى: أنّ السينما التي كان يُفترض أن تكون مرآة للضمير الجمعي، أصبحت وسيلةً لتطهير النظام من ذنوبه، وإقناع العالم بأنّ الجريمة لم تقع قط. فإذا كان القتل يدفن الأجساد، فإن الفنّ الموجه يدفن الذاكرة نفسها.

زر الذهاب إلى الأعلى